لم يغدر السيدان أبو محمد الجولاني وأبو بكر البغدادي بالثورة السورية بل ساهما بفاعلية كبيرة في قتلها، لذا لا يستطيع أحد عتابهما على ما فعلاه. فهما وأضرابهما من الأصوليين من ورثاء قاعدة أسامة بن لادن، كانا واضحين منذ البداية. فهما ضد الديموقراطية، ويؤمنان أن الشعب بحاجة إلى وصاية، لأن الحكم ليس للأكثرية، وحدود الحرية هي الحدود الشرعية، والمعركة ليست في سبيل كرامة المواطن، اذ لا وجود للمواطن في هذا الفكر، بل هي معركة من أجل تأسيس سلطة أو دولة ثيوقراطية يحكمها التأويل الوهابي ومشتقاته للدين.
بدآ بتمزيق علم الثورة السورية وانتهيا إلى قمع المناضلات والمناضلين وقتلهم وزجهم في السجون، وقاما برجم النساء وإعدام الأسرى، وبناء سلطة رعب بزّت سلطة استبداد الديكتاتور الصغير في توحشها وساديتها وإصرارها على سحق الناس.
لذا بدا مشهد السيد الجولاني وهو يعلن طلاقه الحُبي مع تنظيم القاعدة أشبه بعمل مسرحي غير متقن وغير مقنع. فالجولاني يحاول اليوم تمييز تنظيمه ليس عن اقتناع بأن قاعديته أضرت بسوريا وأوصلتها إلى الهاوية، بل محاولة منه لاتقاء قصف الطيران الروسي وطيران التحالف الأمريكي.
ماذا فعل هذان التنظيمان في سوريا، ولماذا استطاعا المساهمة بفاعلية في دفعها إلى فقه الدم والموت، وأوصلاها إلى هذا الدرك من التوحش؟
هل هما جزء من اللعبة الإقليمية والدولية التي أرادت تمزيق سوريا وتحطيم شعبها وتحويله إلى شعب من المشردين واللاجئين؟
أم يعبران عن أزمة سياسية وثقافية عميقة جاءت في سياقات متقاطعة دولية وإقليمية وداخلية، ووصلت إلى ذروتها في تعميم الموت عبر الاستسلام للخرافة؟
أم هما الوجه الآخر والمكمل لنظام الاستبداد المديد الذي أسسه حافظ الأسد بالدم والترهيب وكمّ الأفواه وتحطيم جميع مؤسسات المجتمع؟
أغلب الظن أن قادة هذين التنظيمين «الشقيقين» يجسدون المأزق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي وصل إليه المشرق العربي منذ الهزيمة الحزيرانية، حيث فقد الاستبداد الانقلابي شرعيته وانهارت شعبويته القائمة على إصلاحات اجتماعية وخطاب قومي، وتحول إلى استبداد عار، ينظم القهر والنهب والتشبيح. وفي الوقت نفسه بدأ المركز الاقتصادي والسياسي ينتقل إلى الدول النفطية، التي نجحت في تحويل هيمنتها الاقتصادية إلى هيمنة سياسية واجتماعية ودينية، وفرضت تأويلها على الدين، برعاية مباشرة من الولايات المتحدة.
السؤال الذي يحيرني هو هل خطر في بال أسامة بن لادن وهو يعدّ لعملية البرجين في نيويورك التي قتلت ثلاثة آلاف إنسان، أنه لا «يغزو» الغرب، لأن «غزوته» ستكون مقدمة لشلال الدم في بلادنا، وأن كلامه عن مقاتلة «الصليبيين» واليهود، لم يكن سوى غطاء لقتل العرب من مسلمين ومسيجيين وإيزيديين وصابئة… وأن مشروعه لا أفق له سوى التحول إلى حرب أهلية – دينية- طائفية بين السنة والشيعة، سوف تقوم بتدمير ما تبقى من بلادنا المدمرة؟
من الصعب الدخول في جدل سياسي مع القوى الأصولية سواء أكانت سنية أم شيعية، إسلامية أم مسيحية، فهذه القوى تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وهي تشبه بالتالي النظام الاستبدادي الذي تثور عليه. فهي لا تقاتل الاستبداد بل تقاتل شكله سواء أكان بعثيا أم عسكريا أم طائفيا، وهي تشكل بذلك وجهه الآخر. لذا لم يكن مستغربا أن ينضم ضباط جيش صدام حسين إلى داعش (تنظيم الدولة)، مقدمين لها خبراتهم العسكرية، كما أن الخلاف والصراع بين داعش والنصرة يذكّرنا بالخلاف المستعصي بين البعثين السوري والعراقي.
ولقد شكّل الصراع بين نظام الأسد وداعش نوعا من التحالف الضمني، ليس لأن النقيض يبرر وجود النقيض فقط، بل عبر التعاون المباشر وغير المباشرعلى المستويين العسكري والاقتصادي أيضا. الأسد رأى في داعش والنصرة مبرر وجود وحجة لبقاء الاستبداد والقمع والنهب، والأصوليون رأوا في النظام مبررهم لتعميم التوحش. فالتوحش الأسدي يستدعي التوحش الداعشي والعكس صحيح. واللافت أن هذين العدوين فقدا نهائيا القدرة على أن يكونا أو يكون أحدهما شريكأ في قرار مستقبل سوريا، لأنهما تحولا إلى طابتين يتقاذهما اللاعبان الدوليان اللذان يعالجان رعبهما من الإرهاب الأصولي وشهواتهما النيوكولونيالية، عبر تقديم الضوء الأخضر للطيران الروسي وشركائه على الأرض بانجاز مهمة تدمير سوريا انطلاقا من تدمير حلب.
وجه الجولاني الذي ظهر على الشاشة أخيرا مبشرا بأن مشروعه لم يتغير حتى بعد فك ارتباطه بتنظيم القاعدة، لن يغير شيئا في المعادلة الغامضة التي بدأت ترتسم ملامحها في سورية. والسؤال الآن، خصوصا بعد الخروج المؤقت لتركيا من المعادلة هو عن الشركاء الإقليميين للتحالف المترجرج الأمريكي الروسي، هل رست المعادلة على شريكين إقليميين هما إيران وإسرائيل، وكيف ستستقيم هذه الشراكة؟ أم أن المكان لا يتسع للدولتين الإقليميتين، وعلى الحلفاء اختيار إحداهما، وهو خيار صعب ومعقد لكنه بديهي، فإسرائيل هي حليفة الدولتين العظميين، ولقد قام بوتين بتطمين إسرائيل قبل أن تبدأ الطائرات الروسية سيطرتها على الأجواء السورية.
السيد أبو محمد الجولاني سقط أخيرا في فخ التنازلات التي لا تجدي، لكن سيجسل له التاريخ أنه كان شريكا مع زملائه التكفيريين في قتل ثورة الشعب السوري، التي تشكل مأساتها اليوم عارا على الإنسانية بأسرها.