روح مختلفة تشعر بها وأنت تتجول في مدينة جرش الأثرية في فترة انعقاد مهرجانها؛ حتى لتظنّ أن الأعمدة ترقص والمسارح مختالة بما يجري هناك.
وأغلب الظن أنّ من بنوا المدينة وصانوها بكل تفاصيلها الجميلة، متعاقبين على أكثر من عصر؛ من يونان ورومان ثم عصر الفتوحات الإسلامية، يشعرون بالامتنان لمن أحيا مدينتهم بالفرح والثقافة والفنون، عبر مهرجان جرش السنوي.
هكذا تعيد جرش تكريس اسمها من جديد بقعة مضيئة ترمز لحب الحياة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فتشعر أنّ أعمدتها الألف ترقص فرحا، ومعابدها التي تستقر على رؤوس التلال تقرأ تراتيلها على الزوار، كما مساجدها وكنائسها تدعو لهم بالأمن والسلام، وللأردن الوطن بدوام الاستقرار. وكل ما في المدينة -التاريخية والحديثة- يقول إن التعايش والتآخي كانا هنا، وسيبقيان.
وأنت تسير في المدينة فرحا بالمسارح والساحات، وقبلها البشر، تتخيل ملوكا حكموا المكان في زمن مضى ينظرون من قصورهم بعين الرضا، وهم يرون ما شيدوا وتركوا من تاريخ يعج بالحياة؛ فمن ورثوا هذا المكان لم يفرّطوا به إهمالاً ناهيك عن تركه هدفا سهلا للتدمير على يد الدواعش الإرهابيين، بخلاف مصير تدمر التي تُهدم بكل جمالها، وقبلها آثار العراق التي نُهبت أمام أعين أهلها.
آلاف زاروا مهرجان جرش وشاركوا في فعالياته على مدى عشرة أيام اختتمت أمس مفعمة بالحياة. فجسد المهرجان حدثا استثنائيا في ظل ظروف الإقليم خصوصاً، كما حالة الجنون التي تصيب العالم أجمع. وبذلك جسّد “جرش” رسالة مهمة للوطن وأبعد منه.
إذ إن “جرش” أكثر من مهرجان ثقافي فني؛ هو معركة حقيقية بين الثقافة والفن والفكر الحر والفرح، وبين الظلام والتخلف والموت. وخلال الأيام القليلة الماضية، انتصرت الحياة على الموت؛ والفرح على الحزن؛ والتنوير على الظلام.
صحيح أن “جرش” لطالما كان حدثا استثنائيا، أردنياً وعربياً على الأقل. لكنه اليوم ضرورة كان لا بد أن تمضي بنجاح، للتأكيد على هوية المكان الذي ننتمي إليه، في مواجهة آخرين يسعون إلى اختطاف هذا المكان وهويته السامية، عبر تعميم فكرهم الأسود الذي بات يرفض كل جمال، وكل آخر؛ فيسعى إلى فرض إيقاع واحد ولون واحد، يكره الموسيقى، ويرفض الشعر، ويحرّم الفرح على الناس!
أن يُتوّج “جرش” بالنجاح، هو نتيجة لم تأتِ من فراغ. فقد كان الجهد الوطني المبذول كبيرا، عماده التعاون والتنسيق بين مؤسسات الدولة المعنية كافة، والتي أصرت على عبور الحدث على أكمل وجه.
هنا، تبرز أولا، إدارة المهرجان ممثلة بمديره العام محمد أبو سماقة، الذي تسلم المهمة منذ سبع سنوات، وكان مُصرّاً على التميز في كل عام. ولطالما دافع عن فكرة بقاء “جرش” واستمراره. وقد سمعت أبو سماقة يقول إن “جرش” مثال على حبّنا للحياة والتنوير. ولذلك، كنت تراه “دينامو” من النشاط، يتابع الصغيرة والكبيرة، ويسعى إلى تقديم أحسن ما لديه للأردن والأردنيين وضيوفهم؛ فهو يؤمن أن الحرب على الفكر الظلامي والتخلف تحتاج أكثر من أداة، إحداها بيده، ممثلة في مهرجان جرش للثقافة والفنون.
الأمن كان حاضرا وعاملا أساسيا لإنجاح الحدث، والإجراءات دقيقة واستثنائية لكنها سلسة، والغاية سلام وأمن الحاضرين.
وفكرة المهرجان واضحة في أنه لا يقتصر على الغناء أبداً، بل يتعداه إلى كونه عملا تنمويا؛ فترى عشرات السيدات والرجال يجلسون خلف طاولاتهم يعرضون للزوار ما تيسر من منتجات جمعياتهم، بما يبعث الحياة بساحات المدينة أيضاً التي تعج بحركة تجارية بخلاف باقي الأيام.
“جرش” ليس مكانا لـ”الفسق”، وسواه من توصيفات يحبّ أعداء الحياة إطلاقها عليه. فالناس هناك مواطنون وضيوف عاديون، يبحثون عن الحياة والفرح، وليسوا كما تصفهم تلك الفئة التي صارت ترفض كل شيء، وتشتم كل شيء، وتلعن كل شيء!
طبعاً، في التفاصيل ستظهر بعض الأخطاء التنظيمية الصغيرة هنا وهناك، لكنها بالتأكيد غير مقصودة، ويمكن تلافيها مستقبلاً. وليظل الأهم تذكّر أنّ “جرش” هو أكثر من مهرجان فني؛ هو معركة ضد الفكر الظلامي الداعي للموت والقتل والعودة إلى الخلف.