العملية التجديدية المطلوبة تَمُر وتتوج عبر دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، الحقيقي والمنتخب، تُشارك فيه كافة القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأكاديمية وممثلين عن الشباب والمرأة والأسرى المحررين وممثلين عن فلسطيني الداخل والشتات، ويفترض به أن يفضي لا لنسف القديم (أو هدم المظلة والخيمة كما كان ينادي البعض) بل لتجديد الحالة الفلسطينية، ورفدها بالدماء الحية..
تتناغم الرسائل المتتالية من حين لآخر، والتي يوجهها الأسير مروان البرغوثي من داخل سجنه، لكوادر حركة فتح وعموم الفصائل والقوى والأحزاب الفلسطينية، تتناغم مع حراكات ومساعي الأجيال الشبابية الجديدة في فلسطين، التي بَدت تحركاتها منذ فترة ليست بالقصيرة وتحت عناوين مُختلفة من أجل إعادة التأسيس لحالة فلسطينية نوعية جديدة، لا تدعو لهدم القديم، بل لإنقاذه وإعادة بنائه وتطويره ورفده بالدماء الشابة الجديدة.
فقد أشّرت حراكات الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية وعموم أراضي العام 1967، بما في ذلك قطاع غزة وحتى الشتات، وفي جانبٍ هام منها، على التراجع الكبير في أدوار وعمل عموم الفصائل والقوى الفلسطينية، وتراجع أدوارها، سواءً بسبب تحوّل معظم بناها لأطر بيروقراطية، وسيطرة حالة الرتابة عليها، أو لجهة فشلها في تجديد وتطوير طروحاتها الفكرية والبرامجية، وعجزها عن تفعيل بناها التنظيمية، وتكلّس هيئاتها، وتسلط مجموعات ضيقة منها على سدة القرار والمكاسب الآنية، وشيخوخة قياداتها الأولى.
إن أمراض التكلس والشيخوخة الفكرية والجسدية، أصابت عموم الفصائل والتنظيمات في مَقتل، وانعكس ذلك على الحالة الوطنية العامة، وحال دون حدوث عملية التجديد المنشودة، وهذا ما حصل بشكلٍ خاص في حال اليسار الفلسطيني بمعظم فصائله في ظل تقوقعها وتكلسها، واستنكاف أجيال الشباب الجديدة عن الالتحاق بالعمل في صفوفها (مع استثناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بحدودٍ معينة)، حيث تُعبّر مواقف أجيال الشباب من تلك الفصائل في وجهٍ من وجوهها على فشل كبير وفضيحة مدوّية للأطر الحزبية والتنظيمية الفصائلية وقياداتها التي شاخت، والتي لم تستطع أن تُجدّد نفسها، وتكوينها، وعقليتها، فألحقت الخراب الكبير في فصائلها: انشقاقات، أزمات، خروج مُستمر للكوادر المجربة، ضمور هيئاتها، واستنكاف جمهورها وتراجعه، وزاد معه سلوكها المُتخم بــ»نرجسية» الذين لا يرون أنفسهم إلا قادة من المهد إلى اللحد.
حراكات أجيال الشباب الصاعد في فلسطين، يتلخص فحواها بوجود قناعة عالية بأن طريق الانتقال بالحالة الفلسطينية (وعلى كل المستويات) إلى تموضعات ذات بُعد نوعي جديد، يَفتَرِض العمل من أجل الخروج والخلاص من مستنقع الانقسام والتشظي برؤى خلاّقة ومبدعة، ترتكز على قواعد راسخة في العقل، وتؤسس لانطلاقة جديدة تُعيد صياغة الحاضر والمستقبل بما يتلاءم وطموحات الشعب الفلسطيني، وطموحات أجياله في بناء مؤسسات وطنية متماسكة يسودها النظام والقانون وتحقق العدل والمساواة، وتجسّد التنوع السياسي والفكري في النسيج الوطني الفلسطيني بطريقة ديمقراطية حقيقية.
إن تلك العملية مضنية، وتحتاج لاجتراح مواقف مدروسة جدًّا، بعيدة عن التزمت والجمود والعصبيات الفصائلية والحزبية، وبعيدة عن تقديس النصوص، وبعيدة عن مخاتلات العمل النقابي، ومنطق الاستحواذ بالرأي والقرار، وبإرادة فلسطينية ائتلافية توافقية، يُمكن لها حال توافرت النوايا الصادقة أن تقفز عن كل المصاعب، وأن تشتق الأفكار الخلاقة لإعادة لملمة البيت الفلسطيني على أساس توافقي وحدوي. بحيث يتم صناعة وإنتاج البديل التوحيدي عبر المسار الديمقراطي، الذي يَضمن مشاركة الجميع في صياغة القرار، وتوجيه، وإدارة دفة السفينة الفلسطينية، وعبر إعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الواحدة الموحدة، وليس الإتيان بــ»مؤسسات كوتا التعيين» دون المرور عبر صندوق الاقتراع كما جرت العادة في الساحة الفلسطينية. فالحيثيات كلها قد اختلفت في عصر آخر نعيشه الآن، والشعب الفلسطيني لن يقبل إلا بأوراق صندوق الانتخابات النـزيهة ممرًّا لقيادة ائتلافية جديدة على مستوى الرئاسة، والمجلس التشريعي، والمجلس الوطني الفلسطيني، وباقي الهيئات والمؤسسات الوطنية الفلسطينية في الداخل والشتات، وعلى مستوى البرنامج الوطني التشاركي.
وفي هذا السياق، تأتي أهمية استعادة خطاب حركة التحرّر الوطني لشعبٍ تحت الاحتلال، والذي يُرَكِّزُ على الخلاص من الاحتلال، وهو ما يقتضي إعادة صياغة الحركة الوطنية الفلسطينية، والنظام السياسي الفلسطيني، في إطار شراكةٍ وطنيةٍ كاملةٍ في كل المؤسسات الوطنية الفلسطينية، وتكريس التعدّدية السياسية الديمقراطية، وتوليد نخبة سياسية، بعيدًا عن منطق إقصاء الشباب الصاعد، وبعيدًا عن استمرار سياسة إبقاء القديم على قدمه. بل لا بد من توليد الجديد على قاعدة الاستمرارية التي تغذي الجديد بخبرة القديم، خبرة التجربة الميدانية للمقاومة والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
العملية التجديدية المطلوبة تَمُر وتتوج عبر دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، الحقيقي والمنتخب، تُشارك فيه كافة القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأكاديمية وممثلين عن الشباب والمرأة والأسرى المحررين وممثلين عن فلسطيني الداخل والشتات، ويفترض به أن يفضي لا لنسف القديم (أو هدم المظلة والخيمة كما كان ينادي البعض) بل لتجديد الحالة الفلسطينية، ورفدها بالدماء الحية، بدلًا من أصحاب العروق التي تيبست وشاخت، وبالتالي في السعي الصادق والحقيقي لتوليد نخبة سياسية فلسطينية جديدة من أبناء الداخل والشتات، ومن كل الأطياف، نخبة مُتعلمة، حكيمة ومعقلنة، صاعدة، وملتزمة، في إطار برنامج الإنقاذ الوطني المنشود، للخروج من حالة العجز، وفي بناء برنامج التلازم في السياسات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وتناغمها مع خطاب حركة التحرر الوطني، فمعركة البقاء، والمواجهة الفلسطينية مع الاحتلال عملية مديدة وطويلة النفس كما دلّت الوقائع الحية في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عام النكبة وحتى الآن، ولا يُمكن حسمها بالضربة القاضية، بل لا بد من اجتراح واشتقاق كل الأشكال المُمكنة في مواجهة الاحتلال، وإدامة مسار الصراع وإرهاق الاحتلال بعملية كفاحية فلسطينية تراكمية لا بد أن تنتهي بانتصار العدالة على أرض فلسطين.
وعليه، إن مشروع الإنقاذ الوطني الفلسطيني، والخروج من دوامة عملية التسوية المسدودة الأفق، والتخلص (أو التخفيف على الأقل) من الضغوط الخارجية المُسلطة على عموم الحالة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الداخلي، أولويات فلسطينية لا يمكن القفز عنها في سياق المرحلة التالية، التي يبدو بأن مصاعب كبيرة تنتظرها في ظل تهتك الأوضاع في البيئة الإقليمية العربية مع استمرار النزاعات الدموية على أكثر من ساحة.