وصل السياسي المخضرم عدنان أبو عودة إلى نتيجة لطيفة، بعد جلسة عصف ذهني ممتعة معه ومع الصديق العزيز د. محمد المصري (الذي يدرّس في جامعة أوكلاهوما، ويدير برنامج اللغة لغير الناطقين بالعربية هناك)، وهي أنّ هناك فائدة مهمة لتنظيم “داعش” اليوم في العالم العربي، بالرغم من كل الكوارث المترتبة على ما يقوم به!
الفائدة تتمثل في حجم الارتباك والقلق اللذين أصابا المسلمين اليوم من خطاب هذا التنظيم وسلوكه، ما دفع بجملة من الأسئلة المهمة والحيوية إلى السطح، لدى شريحة واسعة من الناس؛ فيما إذا كان ما يمثّله “داعش” هو الإسلام حقّاً؟ وإذا لم يكن كذلك؛ فما هو التأويل الصحيح للأحكام الإسلامية؟ وكيف نعيد فهم الإسلام وتطبيقه اليوم؟ وهي أسئلة تخلق بدورها حواراً داخلياً عميقاً، يحرك المياه الراكدة، ويعيد سؤال الإصلاح الديني والتجديد إلى قلب المشهد العام، بعدما تمّ تغييبه فترة طويلة.
بالطبع، هذه النتيجة ليست جديدة. بل هي، كما هو معروف، مطروحة منذ قرن تقريباً في العالم العربي والإسلامي، لكنّها لظروف سياسية ومجتمعية وثقافية تمّ تغييبها، وبدلاً من سؤال التخلف والنهضة والجمود الديني والإصلاح التعليمي، الذي طرحه الإمام محمد عبده ومدرسته الإصلاحية، حلّ سؤال الهوية الإسلامية المنغلقة في مواجهة خطر التغريب والعلمنة الذي هيمن على المدرسة الإحيائية اللاحقة، على يد الإخوان المسلمين والسلفيين وجميع الحركات التي انبثقت بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة، وبداية تشكّل الحالة القطرية العربية.
تبدو المفارقة اليوم، أنّنا ونحن نشهد تفكك أو أزمة الدولة القطرية العربية في أكثر من مكان، وتحرّك سؤال الهوية من مربع الإسلام والعلمنة، إلى المربع الطائفي والصراع السني-السني في جوانب أخرى، فإنّ مثل هذه المتغيرات والتحولات هي نفسها التي تنقل شريحة اجتماعية واسعة من المجتمعات العربية إلى إعادة اكتشاف الدين من جديد، برؤية نقية واقعية بعيداً عن الأفهام التي سيطرت علينا خلال العقود السابقة، والبحث عن قراءة تأويلية مغايرة للداعشية والحقل الذي تنتمي إليه.
المبالغة في تضخيم هذه الفائدة غير واردة؛ ففي النهاية نحن في مرحلة صعبة تتجاوز الداعشية الدينية والسياسية، إلى انهيار النظام السياسي والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لكن في النهاية، لا بد من محاولة قلب الطاولة أو المعادلة من القلق الشديد لصعود الداعشية إلى التفكير في سؤال الإصلاح الديني والتنوير الحقيقي، البعيد عن التباسات السلطة في العالم العربي ومراوغاتها الحالية.
اقتراح عدنان أبو عودة، المستمد من بعض النصوص التي سردها الصديق د. محمد المصري لعلماء مسلمين سابقين، وتتحدث عن التجريبية والعلوم الطبيعية والعقلية النقدية في دراسة الظواهر الاجتماعية، ذهب نحو ضرور التفكير في كتاب أو مساق يدرس في الجامعات عن مناهج البحث لدى العلماء المسلمين، ما يساعد الطلبة في بناء عقلية أكثر عمقاً ونقدية تجاه التراث.
المفارقة الأخرى هي أنّ مثل هذا المساق كان موجوداً أصلاً ويدرّس باقتدار شديد في جامعة آل البيت، وصاحب فكرته هو المؤرخ الأردني الدكتور محمد عدنان البخيت؛ إذ كان مساقاً إجبارياً لطلبة الدراسات العليا، يتم خلاله تدريس مقدمة ابن خلدون، ويأتي ضيوف من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي يستعرضون مناهج العلماء المسلمين في الفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية والاجتماع، ويقدّم الطلبة فيه أوراقاً علمية، ويكون الامتحان النهائي بمثابة أسئلة مفتوحة.
لكن هذا الإنجاز العلمي الذي قدّمه الدكتور البخيت تمّ تضييعه لاحقاً، بعد أن كانت الجامعة تخط قدمها لتصبح ظاهرة أكاديمية في العالم العربي، عبر تدريس المذاهب السنية والشيعية، ودمج كلية الشريعة والقانون، وتطوير دراسات التراث الإسلامية؛ إذ تراجعت عن كل تلك الإنجازات!