الرئيس رجب طيب أردوغان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لن يعود كما كان قبلها. وكذلك تركيا لن تعود إلى صورتها المعهودة. ما يرسمه ويقرره الرئيس صواباً أو خطاً، تعسفاً أو التزاماً للقوانين، سيحدد مستقبل البلاد. فالرجل الذي أعلن وفاة «تركيا القديمة» يحدد بإجراءاته وقراراته الصورة المقبلة للبلاد. هل تكون أكثر ديموقراطية وعدالة أم أنها ستدخل تاريخ حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد لترزح تحت نظام ديكتاتوري مقنع بخطاب حداثي لكنه في الحقيقة يدفع المجتمع نحو مزيد من المحافظة بعيداً عن الليبرالية؟ إن حملة الرئيس على العسكر والقضاء وقبل ذلك على الإعلام وقطاعات أخرى بذريعة تفكيك «الدولة الموازية» تأخذ بطريقها قطاعات وفاعليات أخرى لا تثبّت مفهوم الديموقراطية. كان يسعى إلى أيام خلت إلى رأب الصدع في علاقات بلاده الخارجية. ولم يجد حرجاً في الاعتذار وتقديم ما يلزم من تنازلات لربط ما انقطع مع روسيا وإيران. لم يكن هدفه استعادة أنقرة دورها الإقليمي فحسب. كان يتوجه إلى الداخل الذي اعترض على كثير من سياسات الحزب الحاكم. بدل وجوهاً في الحزب. وانكب مجدداً على عملية استنهاض الوضع الاقتصادي الذي ترك الحصار أثراً كبيراً في مفاصله، سياحياً وتجارياً. وكان إيلاء هذا الوضع في السابق القاعدة الذهبية وراء نجاحات «حزب العدالة والتنمية» طوال عقد، ووراء توسع قاعدته مع اتساع الطبقة الوسطى وتنامي حركة الأعمال. وقد جاءت المحاولة لتوفر له فرصة نادرة واستثنائية لتحقيق أحلامه وطموحاته، مثلما هي فرصة، إذا أحسن التعامل، لإعادة لملمة الأوضاع الداخلية، وتصحيح العلاقات مع القوى السياسية المعارضة وتقويم الخلل بين السلطات الدستورية.
الحال الاستثنائية التي تمر بها تركيا تفرض بالتأكيد إجراءات وقرارات استثنائية سريعة. لكن المخاوف التي يثيرها الغرب عموماً وبعض القوى السياسية في الداخل يجب أن تكون حاضرة أيضاً. فالسنوات الأخيرة التي عاشتها البلاد، خصوصاً بعد تولي أردوغان موقع الرئاسة حفلت بكثير من الجدل. إذ لم تكن الإجراءات التي طاولت عدداً واسعاً من المؤسسات والقطاعات من باب ترسيخ النظام الديموقراطي. بل خلفت تضييقاً على الحريات وبعض حقوق الإنسان. وأحدثت تغييرات جذرية طاولت العسكر ومؤسسات أمنية أخرى وجهاز القضاء ووسائل الإعلام. وانتهت بالتراجع عن الحل السياسي مع حزب العمال الكردستاني… كل هذه التغييرات وما ولدت من امتعاض وغضب في صفوف كثيرين، وأسباب أخرى بالطبع، شجعت الانقلابيين. وجعلتهم يتوقعون التفافاً حول حركتهم. إن حال الطوارئ التي أعلنت تتيح للرئيس أردوغان التحرر من سلطة البرلمان وسن قوانين تتماشى مع أهدافه وأجندته الحزبية. وممارسة سياسة تصفية الحسابات ليس مع غريمه الداعية فتح الله غولن فحسب، بل مع قطاعات واسعة من المؤسسات والأجهزة والقطاعات من الجيش والأمن إلى القضاء والإعلام والمدارس والجامعات. كأنه يستعجل التحول إلى النظام الرئاسي للهيمنة على السلطتين الإشتراعية والقضائية. وترسيخ نظام الحزب الواحد بدل العمل على توطيد الديموقراطية وتحقيق المصالحة مع قوى المعارضة التي وقفت ضد عودة النظام العسكري، لكنها بلا شك تتمسك بالتعددية وتداول السلطة. حتى الآن لم تثمر التحذيرات التي يطلقها زعماء غربيون، خصوصاً في أوروبا. فالرئيس يدرك أن دونه وجنة الاتحاد الأوروبي سنوات، كما كانت الحال في السابق. بل يتهم مناصروه الغرب بازدواجية المعايير، مقارنين بين حال الطوارئ في فرنسا بتلك التي في تركيا! فبينما تثير هذه انتقادات ومخاوف لا أحد يأتي على ذكر ما سبقت إليه باريس!
قد لا تعيق أصوات المحذرين في الخارج من الإجراءات التي تتخذها حكومة بن علي يلدريم. لكن المحك الحقيقي هو في موقف القوى والأحزاب التي وقفت ضد تقويض النظام المدني. صحيح أن معظمها عارض تقويض هذا النظام، لكنه بالتأكيد مع قطاعات شعبية واسعة قد يرفض المبالغة أو الذهاب بعيداً في ما يسميه بعضهم «سياسة الانتقام» التي تولد انقسامات دفينة لا تخدم الاستقرار والأمن. وتحول تركيا مجدداً بلداً مريضاً يتيح لجميع الطامحين برسم خرائط جديدة للمنطقة أن يبادروا إلى هذه الخطوة بلا حساب لموقف أنقرة كما كانت الحال إثر سقوط السلطنة في الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تقسيم للمشرق العربي. لا شك في أن الرفض الذي أبداه العالم للحركة الانقلابية رصيد مهم لموقع تركيا ودورها وبقائها… وكان كثيرون توقعوا، لو نجح الانقلاب، أن تسقط في الفوضى كجارتيها العراق وسورية، ليكتمل بذلك قوس الأزمات والحروب الأهلية والعبث بالحدود التي رسمها «سايكس – بيكو» على أنقاض السلطنة التي لم يكن ليبقى منها شيء لولا أتاتورك وجيشه!
لا شك في أن التوقيف والحجز الاحتياطي لآلاف بينهم نحو مئة جنرال وأميرال، وعزل مئات القضاة، وطرد عشرات الآلاف من الموظفين في قطاعات مختلفة وإقفال مئات المدارس والجامعات التابعة لحركة غولن، كلها مبررٌ منطقي لإثارة الخوف وزرع الضغينة والحقد على الحكومة ونظام الحكم. وولادةٌ لمزيد من الانقسامات والاستقطاب والتطرف في صفوف الذين يرون أن إجراءات الحكومة تتجاوز رؤوس المحاولة إلى الناس العاديين المعارضين لسياسات الحزب الحاكم وتوجهاته لتغيير هوية الدولة. إن سياسة الانتقام أو الثأر تولد سياسة مماثلة. في حين أن الحفاظ على الوحدة التي تجلت بمواجهة الانقلابيين يجب أن تكون هي المعيار لأي إجراءات وقرارات. ذلك أن «حزب العدالة» لم يكن وحده في مواجهة الانقلابيين. ساندته القوى السياسية والشعبية وفريق كبير من العسكر والأجهزة الأمنية الأخرى. وإذا لم يضع الرئيس أردوغان في حساباته هذه الحقيقة يجازف بضرب وحدة البلاد. وإذا كان هدفه من المصالحة مع موسكو وتل أبيب فك الحصار الذي ضرب على تركيا لأسباب معروفة، فإنه سيقع في فخ حصار داخلي عاجلاً أم آجلاً. وعندها تصح تحذيرات الحكومة من احتمال تجدد الحركة الانقلابية. ومثل هذه الأجواء لا يخدم الاستقرار الاجتماعي ولا يحرك عجلة الاقتصاد والتبادل التجاري والرساميل والصناعة السياحية، ولا يسمح بعودة الحياة إلى طبيعتها. وتؤلب المجتمع الغربي على الحكم. لذلك لا يمكن أردوغان بحملته على إدارة الرئيس باراك أوباما وبعض الحكومات الأوروبية أن يجازف بعلاقات تركيا بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. في حين أنه يعرف جيداً أن أنقرة لا يمكن أن تشد الرحال بعيداً عن علاقاتها التاريخية بواشنطن، وأن تغامر بعضويتها في حلف شمال الأطلسي. ويعرف أيضاً أن لا موسكو ولا طهران يمكن أن تشكلا تعويضاً أو بديلاً دائماً. والمعارضة التي أبدتاها للانقلاب مردها الحرص على مصالحهما، وإن كانت مصالح مشتركة ومتبادلة تمتد من العراق وسورية إلى القوقاز وآسيا الوسطى. وماذا ينفع أردوغان الذي سارع إلى مصالحة روسيا وإسرائيل إذا خسر علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا؟ كأنه يعود إلى سيرته في البحث عن خصومات وأعداء!
الرئيس أردوغان أعلن أنه سيقضي على «الدولة الموازية» التي يرعاها الداعية غولن. لكن إفراغ مؤسسات تركيا من قادتها وكفاءاتها يشكل تهديداً كبيراً لمستقبل الدولة وبقائها. والتحدي الجدي يكمن في القدرة على إعادة بناء مؤسسات جديدة وهياكل بديلة. إن اجتثاث «دولة غولن» سيخلف فراغاً واسعاً في عدد من القطاعات لن يكون سهلاً إقامة بدائل لها. ولعل أخطر تداعيات الأحداث التي تشهدها هي ما أصاب ويصيب المؤسسة العسكرية التي خرجت منقسمة على نفسها. إن اعتقال أو إعفاء جنرالات وقادة كبار في ظل خوض تركيا حرباً مع حزب العمال الكردستاني، والإرهاب الذي لم يعد يوفرها، مجازفةٌ تهدد الأمن الداخلي. وما يطاول الجيش اليوم من إجراءات لتصفية آخر مراكز القوى التي لا تزال تتمسك بالعلمانية هوية وعقيدة للبلاد عمليةٌ قد تطول، وكلما اتسعت دائرة المتضررين من تغيير الهوية التي رسمها مصطفى كمال أتاتورك والجنرالات اتسعت معها دائرة المخاوف على مستقبل البلاد وأمنها. فليس سهلاً تحييد الجيش الذي كان وراء قيام تركيا الحديثة. ولا من الحكمة إشغاله بصراعات وتصفية حسابات في وقت يعول عليه الشركاء في «الناتو» وحتى روسيا في الحرب على «داعش» وأخواته. كما أن استعادة أنقرة دورها الإقليمي الفاعل لا يمكن أن يتحقق من دون قوة عسكرية وازنة في إقليم مضطرب يعج بالتدخلات الأجنبية. أما عملية إعادة تأهيل جيش هو الأكبر في حلف «الناتو» بعد الجيش الأميركي فليست عملية سهلة ويسيرة في جو من الإحباط والغضب والشعور بالإذلال، فضلاً عن أنها تستغرق وقتاً لبناء كفاءات وتربية قيادات جديدة. إن تهديد أردوغان الانقلابيين بدفع ثمن باهظ قد يرتد على البلاد عموماً وليس على الرؤوس المدبرة وحدها.