أردوغان يستعين بـ «تراجيديا الإخوان» لينقضّ على إخوانه/ حازم الأمين

للمرء أن يشعر بالريبة جراء ما يجري في تركيا. فالوقائع تشي بأن اللوائح العقابية كانت معدة، وأن الانقلاب كان هدية لرجب طيب أردوغان. وتجاربنا نحن المشارقة مع الانقلابات تؤشر إلى حقيقة أن الانقلاب مؤامرة فعلية ومحبوكة، لا يفصح نجاحها أو فشلها عن مضمونها الحقيقي إلا بعد سنوات طويلة.

الانقلاب الفاشل على أردوغان سرعان ما تكشف عن طبيعة المرحلة التي ستعقبه. فأعداد المعَاقَبين هائلة، ومؤشرات الوثبة الأردوغانية كلها تذهب إلى أن الرجل بصدد نقل تركيا إلى مرحلة أخرى. آلة إعلامية هائلة تتولى تسويق ما لا يحصى من قصص الانقلاب الفاشل. قصص لا تتسع لها الساعات القليلة التي أمضاها الانقلابيون خلال محاولتهم الانقضاض على السلطة. رحلة أردوغان في الطائرة من مرمريس إلى إسطنبول استغرقت نحو ساعتين تخللتها عشرات القصص التي تولّت نشرها وسائل إعلامه المباشرة.

عبدالله غولن لا يكفي لإحداث كل هذا الضجيج. الرواية ركيكة عن أن الرجل يطمح للاستيلاء على تركيا. ثم أن توجه الرواية الأردوغانية نحو داعية إسلامي بصفته شيطان عصره وزمانه، يضعنا أمام مفارقة لم يسبق أن عاينا مثيلاً لها. الإخوان المسلمون في مواجهة من يشبههم في الدعوة وفي الإيمان! انفكاك لا نملك عدة تفسيره حتى الآن. فالإسلاميون المتناحرون في تركيا رموا بخصومهم القوميين والعلمانيين خارج حلبة الصراع. التهميش جرى هنا عبر حرف النزاع وعبر إنتاج جوهر جديد له.

الجيش تقليدياً هو معقل العلمانية الأخير. أردوغان يقول غير ذلك. يقول أنه معقل غولن، ونشرت وكالة الأناضول الرسمية اعترافات نائب رئيس الأركان المتورط بالانقلاب لفنت توركفان والتي اعترف فيها بانتمائه إلى جماعة غولن، وكشف أن أكثر من 60 في المئة من ضباط الجيش دخلوا إلى المدرسة العسكرية بمساعدة من غولن!

النسبة مذهلة طبعاً، مثلما هي مذهلة أعداد المعاقبين في أعقاب محاولة الانقلاب. فغولن بهذا المعنى يفوق أردوغان نفوذاً في المؤسسة العسكرية والقضاء والتعليم والاقتصاد. وهو يفوقه نفوذاً على رغم أنه يقيم في الولايات المتحدة، وعلى رغم أن الخصومة بين الرجلين صار عمرها أربع سنوات لم يتمكن خلالها أردوغان، وهو على رأس السلطة، من الحد من هذا النفوذ. هذه تجربة استثنائية في النفوذ يقترح علينا حزب «العدالة والتنمية» أن نقتنع بها.

والحال أننا حاولنا أن نفعل، لكن الوقائع لم تساعدنا. فواحدنا يميل إلى عدم تبرئة العسكر، وغولن شخصية غامضة، يمكن أن تحاك حولها حكايات وأسرار. لكن أردوغان لم يترك مجالاً للذهاب مع المؤامرة المحاكة حوله. فقد ظهر علينا فجأة رافعاً أذان صلاة الفجر، وهذه دروشة مفتعلة لا تساعد على هضم الحكاية. علينا إذاً أن نعود إلى ما هو أصلب من رفع السيد أردوغان الأذان، وأن نتغاضى عما بعثه فينا من ذكريات أليمة لجهة تذكيرنا بما أقدم عليه نظيره في الرئاسة وفي رفع الأذان من على كرسي الرئاسة محمد مرسي.

ولوهلة تبدو تصريحات رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان متماسكة وتساعد في تجرّع الرواية، فهو بحسب وكالة الأناضول أفشل الانقلاب عبر دفع المخططين إلى مباشرة خطواتهم قبل الموعد المحدد بسبع ساعات، إذ أشعرهم بأن نواياهم كُشِفت، ما اضطرهم إلى تقديم موعد الخطوة الأولى من الثالثة فجراً إلى الثامنة مساء. لكن الرواية على ما فيها من تماسك تعود لتتصدع عند ما أعقبها من وقائع. فمنع مفتي تركيا إقامة صلاة الميت على جثامين الجنود الانقلابيين يدفع إلى شعور بأن الضغينة سابقة على المحاولة الانقلابية، وأن السهولة التي تتخذ بها القرارات مردها إلى قرار بشيطنة كل مَنْ هو خارج عباءة «العدالة والتنمية» من المؤمنين الأتراك. القرار بمنع صلاة الميت على الجنود القتلى يعني أن الدولة التركية أعلنتهم كفاراً. وناهيك عن أن الخطوة تنطوي على مصادرة «العدالة والتنمية» الحق بالتكفير في دولة علمانية، فإن الذهاب في الخصومة إلى حد التكفير مستمد من تقاليد انقلابية استئصالية خبرها «الإخوان المسلمون» وكانوا ضحاياها في مصر عبد الناصر، حين اتهموا بمحاولة اغتياله في المنشية عام 1954، وكانت فرصته لتعليق المشانق لقادتهم.

لا يسع مستفظِع الانقلاب على أردوغان أن يتخفف من أثقال شكوكه بالرجل. فالانقضاض على كل شيء في أعقاب الانقلاب مُهد له بخرافات لطالما رافقت مراحل الانقلابات العسكرية، بحيث يمكن المرء أن يرصد أن ضحية الانقلاب استعانت بتقنيات الانقلابات لتصوير خصومها بصفتهم شياطين مطلقة. «الانقلابيون كانوا ينوون قتل عبدالله أوجلان لإشعال حرب أهلية في تركيا»، وكانوا ينوون «شق الجيش وافتعال حروب بين فرقه وقطعاته». هذه كلها قصص بثها الإعلام القريب من أردوغان، وهذا الإعلام لم يُراعِ الحد الأدنى من ذكاء مستقبليه. فالانقلاب العسكري يحتاج لكي يكتمل إلى أن يعقبه وضع ممسوك ومستقر، لا إلى حرب أهلية، وانشقاق الجيش يعني فشل الانقلاب لا نجاحه.

أما الحكايات عن نفوذ عبدالله غولن في كل مؤسسات السلطة التركية فلها وقع آخر. ذاك أننا نتحدث وفقاً لمعطيات الإعلام الإخواني عن رئيس ظل بالمعنى الحرفي للكلمة، يملك القرار الأخير ويُوزع الأدوار ويحرك الفرق العسكرية.

في العام 1954 جرت محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر، استثمرها لاستئصال الإخوان المسلمين. وفي العام 1963 أقدم الناصريون على محاولة انقلاب على الحكومة البعثية في دمشق، علم البعثيون بنوايا الناصريين وسهّلوا لهم المهمة، وكان فشل المحاولة وسيلة «البعث» لتطهير سورية من أي نفوذ ناصري.

الأرجح أن أردوغان يُكرر ما جرى في مصر وفي سورية، وهذا استنتاج ما كان على هذا القدر من السهولة لولا حقيقة أن وسائل تسويق الرواية الأردوغانية أصيبت بانعدام التوازن، وأن الميديا الحديثة سلاح ذو حدين، فهي أتاحت للرئيس التركي أن يظهر على رغم احتلال الانقلابيين التلفزيونات، وهي أيضاً شطبت وجهه بعدها بأخبار مساعيه الاستئصالية.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري