ليلة تركية بيضاء/ عيسى الشعيبي

لم ينم الأتراك، ولم يدعوا غيرهم ينامون ليلة السبت الماضي، عندما تدفقوا إلى الشوارع والساحات، وسهروا حتى مطلع الفجر، في طول البلاد وعرضها، للتصدي بشجاعة لا نظير لها، لأول انقلاب عسكري في عهد رجب طيب أردوغان، مسجلين بذلك سابقة تكاد تكون غير مسبوقة منذ اختراع الدبابة، ونعني بها انتصار الإرادة الشعبية على سلاح العسكر، وتلقين الجنرالات المغامرين دروساً بليغة، أحسب أنها تفيض عن حدود آسيا الصغرى بكل تأكيد.

ولعل ما حدث في تلك الليلة الليلاء، كان أول انقلاب عسكري تتابعت فصوله على أثير البث التلفزيوني المباشر، لحظة بلحظة، أمام سمع وبصر الملايين في مختلف أنحاء العالم الذي وقف مشدوهاً، وموزعاً بين من يضع يده على قلبه خشية مما قد تؤول إليه أول تجربة ديمقراطية مستقرة في بلد إسلامي كبير، وبين من يمنّي النفس بسقوط  الرجل الذي كان له الفضل في تعاظم الثورة السورية، وإكسابها القدرة على الصمود كل هذا الوقت الطويل.

بالنتيجة، استحقت تلك الليلة التركية تسميتها كليلة بيضاء، كون بياضها المترع ثنائي المصدر: أولهما، مستمد من قضاء ساعاتها الثقيلة بلا نوم، سهدت فيها عيون الملايين، داخل تركيا وخارجها. وثانيهما، نابع من حقيقة أن تطورات هذه الليلة أتت وفق ما اشتهته النفوس الواجمة، وانتهت على خير ما يرام، وربما على نحو أفضل من التوقعات، عندما مالت الكفة ضد الانقلاب بعد منتصف الليل، وعادت الأمور إلى نصابها الطبيعي قبل أن تشرق الشمس.

ولا أحسب أنه بعد كل ما دبج من أوصاف، وقيل من كلام عن هذا الانقلاب، أي ما كتبه الكتاب وعلق عليه المعلقون، قد تبقى الكثير لإضافته، من جانب صاحب رأي تتبع المشاهد المنقولة من عين المكان عن كثب، وأبصر بعين قلبه بعض ما لم ير، أو ربما اختلط على أذهان المراقبين، لاسيما ما اتصل منها بالأهم فالمهم على سلّم الأحداث، التي لشدة وضوحها التبست على الإدراك، أو سقطت من حساب المعنيين بالمجريات العريضة، وبالنتائج النهائية، وبالصورة الكلية.

وإذا كان هناك ما يشبه الإجماع على أن راية إسقاط هذا الانقلاب معقودة على أكتاف الجماهير التي نزلت إلى الشارع في مواجهة الدبابات، وأن الانقلاب كان مرتجلاً، وأنه لم يحظ بتأييد كاف من جانب كل قطاعات الجيش، وأن سلاح الديمقراطية كان أمضى من سلاح العسكر، وأن الإعلام الجديد بتقنياته الحديثة كان لاعباً استثنائياً في تلك الليلة البيضاء، فإن ما لا يجب أن يغيب عن أي تشخيص، ذلك الدور الحاسم الذي نهض به أردوغان شخصياً.

ذلك أنه عندما شاهدت الرئيس التركي يتحدث عبر هاتف محمول من مكان مجهول، ويطلب من الناس النزول إلى الشارع لدحر الانقلاب، أشفقت على الرجل كثيراً، وقلت في نفسي لقد قضي الأمر، وما هذا النداء إلا حشرجة في ساعة الموت الزؤام، فما الذي يمكن أن تصنعه الأيدي العارية قبالة أرتال الحديد والنار؟ وماذا في وسع الحزب السياسي المنظم أحسن تنظيم أن يقوم به، إذا كانت يد الجنرالات والكولونيلات هي اليد العليا في لعبة القوة العمياء؟

حين استمعت إلى نداء اردوغان المشفوع بنبرة يختلط فيها التوسل بالرجاء، طافت على أجنحة الخيال صور أحزاب زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وعلي عبدالله صالح، وكيف عجزت الملايين من الأعضاء المسجلين في الكشوفات ليس إلا، أن تسعف رؤساءها في ساعة الحساب العسير، وكيف تهافتت حينها تلك الكيانات الهشة في لمح البصر.

والحق أنني سررت أيما سرور بخطئي في تقدير الموقف. وحمدت كل الظروف الموضوعية في أن أردوغان كان محقاً وكان على صواب، وأن رهانه على حزبه، وعلى جماهير إسطنبول وأنقرة وأخواتهما، كان في محله. الأمر الذي جعلني أدرك أكثر من ذي قبل أن هناك فرقاً بين الشحم واللحم، وأن ليس كل ما يلمع ذهباً، وفوق ذلك أن معدن القائد لا ينجلي إلا في اللحظة الفارقة، كتلك اللحظة التي أحسن الرئيس التركي الإمساك بها بكل جدارة واقتدار.

Related posts

كيف نخفف من خسائر الحرب؟* ماهر أبو طير

كلمة السر «في سرك»!* بشار جرار

كيف نتكيّف سياسياً مع المرحلة “الترامبية”؟* حسين الرواشدة