لا أدري لماذا كنت أمزج دائماً بين ايلي فيزيل وبرنار هنري ليفي، ربما يعود ذلك إلى صهيونية الرجلين وادعاءاتهما، وذلك التواضع المصطنع الذي يخفي تكبراً وهوساً بالسلطة وتجارة بالقضايا الانسانية. فيزيل حارس ذاكرة الهولوكست، الذي حوّل تجربته في معسكرات الموت النازية إلى تجارة بآلام الضحايا، وليفي الذي بهدل فكرة الالتزام، وحول الفلسفة إلى «هيصة» اعلامية، هدفها خدمة المشاريع الاستعمارية، وتسويغ كل ما تفعله إسرائيل.
الأول كتب كتابا بعنوان «ليل» جعل فيه من سيرته الذاتية المتخيلة عتبة للثروة والجاه وابتذال الألم، والثاني كان جزءًا من موجة «الفلاسفة الجدد» في فرنسا التي أرادت أن تجعل من الثقافة الفرنسية، جزءًا من الآلة الاعلامية الامريكية. رجلان يتكاملان بشكل غرائبي، الأول هاجر إلى نيويورك ليتحول إلى بطل من ورق، والثاني حاول الهيمنة على الفضاء الثقافي الفرنسي، ليتحول إلى بطل صنعه التلفزيون.
المستفز في الرجلين ليس مواقفهما الداعمة لإسرائيل، فهما حران في اتخاذ أي موقف يشاءان، بل في استغلالهما للألم الانساني، من أجل تبرير دعمهما للتيارات الفاشية الصهيونية التي تهيمن اليوم على السياسة الإسرائيلية.
لم يكتف فيزيل، الذي ملأت مراثيه الصحافة الغربية، بأن يعتبر نفسه ممثلاً للضحايا، بل واظب على رفض إدانة أي عمل قمعي قامت وتقوم به إسرائيل، ووصل به التعصب الأعمى إلى اعتبار القدس خارج السياسة وفوقها، لأنها ستبقى عاصمة أبدية لإسرائيل! والى اعتبار الدولة الصهيونية منزهة عن النقد.
اما برنار هنري ليفي فرقص على جميع القضايا من البوسنة إلى افغانستان إلى ليبيا لكنه كان يتوقف دائماً عن الرقص حين تصل الأمور إلى إسرائيل، فيصير تلميذاً يبحث عن كلماته، ويعود طائعاً إلى اخلاصه للتأويل القومي الفاشي لليهودية.
لا علاقة مباشرة بين اليهودي الروماني ايلي فيزيل، الذي رأى مورياك في نجاته من معسكري الابادة في اوشفيتز وبوكنفالد عازراً جديداً وشجعه على الكتابة، وبين اليهودي الجزائري برنار هنري ليفي الذي ولد في قرية بني صاف قرب قسطنطينة لأب مليونير هاجر إلى فرنسا، سوى تحويل الألم الانساني إلى منصة للصعود الاجتماعي.
ما يجمعهما ليس يهوديتهما، بل ابتذالهما لليهودية عبر تأويل العذاب والمنفى في إطار قومي عنصري، يبيح للدولة اليهودية سحقها المنظم للشعب الفلسطيني.
مات ايلي فيزيل الذي دعم الغزو الامريكي للعراق عشية صدور تقرير جون تشيلكوت، الذي ادان الحرب التي شارك فيها طوني بلير ضد العراق عام 2003، لكن هذا النوع من الادانة ما كان له أن يهز قناعات «رسول الانسانية»، بحسب بيان منحه جائزة نوبل، لأن على الانسانية أن تقف أمام الجدار الإسرائيلي ولا تتخطاه.
عجيب أمر هذه الوقاحة المعلنة التي ما كان لها أن تستمر لو لم تستند إلى دعم السلطة. الرجلان هما صديقان دائمان للسلطة في امريكا وفرنسا. فيزيل يتمتع بموائد الزعماء الامريكيين، وليفي يشير على سلطات بلاده. إنهما التعبير الصريح عن انهيار دور المثقف كما تخيله غرامشي وسارتر وسعيد وتشومسكي. ورغم أنهما عاشا في المراكز الثقافية، الا انهما تعاملا معها بوصفها ضواحي الحنين إلى امبراطوريات تتلاشى. ليفي جعل من باريس ضاحية لأمريكا، وفيزيل جعل من الثقافة الامريكية اطاراً للكذب والادعاء والتجارة.
كان فيزيل التاجر المعتمد للهولوكست، الغريب أن الرجل الذي كتب مقاطع تبعث على الهلع في روايته «ليل»، سرعان ما تناسى الألم ليتاجر به. بين صمت الضحايا الذي يقول، وثرثرة فيزيل، مسافة لا يستطيع أن يعبرها سوى المثقف-التاجر.
انهما التجسيد العيني للمثقف التاجر، وتجارتهما بلا حرمات. فيزيل كذب كثيراً ما اضطره في النهاية إلى وضع تصنيف لكتابه «ليل» بصفته رواية وليس سيرة ذاتية، أما ليفي فوصلت به التجارة إلى درك نشر كتابه «من قتل دانيال بيرل»، الذي رأت فيه زوجة الضحية الامريكية التي ذبحت في افغانستان تعبيراً عن «الرجل الذي دمرت انانيته ذكاءه».
هنا تقع المسألة، انها تحويل الثقافة إلى تجارة رابحة. وكي تكون مثقفاً تاجراً يجب أن تنتمي إلى السلطة، وتروج للايديولوجيا السائدة. «الفلاسفة الجدد» كانوا الطلقة الثقافية الفرنسية الأخيرة في الحرب الباردة. ولم يكن أمام نجمهم سوى متابعة الصعود إلى الهاوية، فصار برنار هنري ليفي مهرجاً للنوستالجيا الفرنسية إلى الزمـــن الكولونيالي البائد. اما ايلي فيزيل فكانت لعبته أكثر تعقيداً. رجل امتطى الألم بلا خجـــل من عيون الضحــــايا، برر الحقـــد الصهـــيوني على الفلســـطينيات والفلسطينيين. كذب وراوغ، كي يصـــل إلى الثروة والجاه، وينصب نفسه مرجعية اخلاقية نجحت في الاســتهزاء بالأخــلاق.
كتب برنار هنري ليفي في كتابه الأخير: «روح اليهودية» أن إسرائيل تشكل االاختبار الأكبر لليهود وغير اليهود، لكنه أخطأ في الاطار الذي وضع فيه هذا الاختبار. فالاختبار الإسرائيلي يجب أن يوضع في مكانه الصحيح، أي في اطار المشاريع الكولونيالية، اما التمسك بروحانية يهودية كاذبة والكلام عن اللاسامية في هذا الاطار، فسيقود صاحبه إلى الفاشية المقنعة، وسيعيده إلى المربع الأول، اي إلى البربرية التي تتبرقع بالانسانوية.
في تضاد أخلاقي مع هذين التاجرين، تعود بي الذاكرة إلى لقائي الوحيد بالمثقف والمناضل المغربي اليهودي الكبير ابراهام سرفاتي في بازل في سويسرا، في الاحتفال المضاد للذكرى المئوية للمؤتمر الصهيوني الأول. يومها روى سرفاتي الذي قضى سبعة عشر عاماً في سجون الحسن الثاني، حكاية لقائه الأول بالدعاة الصهاينة في الدار البيضاء. قال انه كان طفلاً يقوم برفقة والده بزيارة الكنيس اليهودي في البيضاء، وهناك رأى رجلاً يلبس ثياباً افرنجية وقبعة ويكثر من الحركة. أخذ الفضول الصبي نحو هذا الانسان الغريب، فما كان من والده إلا ان أمره بالابتعاد عن الرجل، قائلاً انه صهيوني ويجب عدم الاقتراب منه. وعندما استفسر ابراهام الصغير عن معنى أن يكون الإنسان صهيونيا اجابه والده: هؤلاء هم اعداء اليهود.
للأسف لم يستطع ابراهام سرفاتي المجيء إلى بيروت للمشاركة في ندوة نظمها «مسرح بيروت» عن اليهود العرب في الذكرى الخمسين للنكبة، عام 1998، بسبب الحملة الفاشية التي نظمت ضد الندوة بحجة «التطبيع»! وكان لي شرف ان اكون احد الذين ألقوا كلمات الغائبين، في ندوة أقيمت على منصة تحتلها كراسي المتحدثين الفارغة وفي قاعة مكتظة بالحضور. ذكرى هذا المناضل العطرة وذكرى رفاقه ستبقى نبراساً نهتدي به في مقاومة الصهيونية والفاشية.