بعد سبعة أشهر من رفضه “الاعتذار” كشرط رئيس وضعه الرئيس فلاديمير بوتين لقبول تجاوز حادثة إسقاط الطائرة الروسية عبر مقاتلات تركية، قدّم أخيراً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اعتذاره الصريح، الذي قام الكريملين بنشر مقتطفات منه على موقعه الإلكتروني!
في الوقت نفسه، كان أردوغان يشرف على اتفاق مصالحة وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بعد قرابة 6 أعوام من البرود الدبلوماسي بين الطرفين (على أثر حادثة اسطول الحرية). لكن في تقريره الإخباري المتميّز، يناقش الزميل برهوم جرايسي الانطباع الخاطئ بأنّ العلاقات الاقتصادية-الإسرائيلية كانت مجمّدة أو ضعيفة خلال الأعوام الماضية، بل على النقيض من ذلك؛ فهو يرى أنّ العام 2014 سجّل ذروة التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل، إذ وصل إلى 6.8 مليار دولار، بارتفاع تصل نسبته إلى 534 % مقارنة بالعام 2000!
بالنتيجة، وفقاً لمعطيات تقرير الزميل جرايسي، فإنّ أهداف الاتفاق سياسية، وليست اقتصادية فقط، مرتبطة باتفاق الغاز حصرياً. وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإنّ ما حرّك موقف أردوغان باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو -في نهاية اليوم- المصالح الوطنية التركية بدرجة رئيسة، وقد نضيف إلى ذلك حساباته الشخصية.
لكن، هل يمكن اعتبار هذه المواقف الجديدة استدارة كاملة في السياسة الخارجية التركية؟ وهل سيترتب عليها إعادة نظر في الرهانات الأخرى، مثلاً الموقف من نظاميّ الأسد والسيسي، وفي المقابل إعادة نظر في الموقف من الإسلاميين؟
في ظنّي أنّنا إلى الآن أمام “نصف استدارة”، مع الدول المهمة والفاعلة في المنطقة، مثل روسيا وإسرائيل، وربما إيران، مع إبقاء موقف تركيا العام تجاه الأزمة السورية ثابتاً، بعد أن وجد أردوغان نفسه غارقاً في بحر عداوات مع الأطراف جميعها؛ النظام السوري وإيران وروسيا وإسرائيل، ويضاف إليهم الأكراد وتنظيم “داعش”، من دون أن يكون له أصدقاء حقيقيون على مستوى العالم أو المنطقة، فالدول العربية في أغلبها معادية له، وحتى التحالفات الجديدة مع بعض الدول العربية ما تزال هشّة وغير مضمونة.
الأهمّ من هذا وذاك، أنّ علاقة تركيا مع الغرب أصبحت ملتبسة أيضاً. فهناك انتقادات شديدة توجّه لها من قبل الأوروبيين وأوساط أميركية، وروح المناكفة بدأت تسيطر على علاقة أردوغان نفسه بالغربيين، مع تبخّر الأحلام التاريخية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
أراد أردوغان، إذن، بعبارة أدق أن “يعيد تموضع تركيا”، لتخفيف حجم الضغوط الخارجية المتزايدة، مع عدم قدرتها على تحقيق رهاناتها الإقليمية على إسقاط النظام السوري ودعم “الربيع العربي”، وتصدير نفسها كقوة فاعلة للتعبير عن الإسلام السنّي، فحتى الأخير يمرّ بأسوأ أزماته التاريخية مع تنامي النفوذ الإيراني وانهيار النظام الرسمي العربي!
التفكير في “إعادة التموضع” ليس وليد اللحظة، بل هو مفكّر فيه منذ عامين. وقد استضفنا في مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية (10/ 12/ 2014) الباحث التركي محمد زاهد غول، وتحدّث منذ ذلك الوقت عن وجود أفكار جادّة في دوائر القرار التركي في إعادة تقييم السياسة الخارجية بناءً على المتغيرات الواقعية والإقليمية والتطورات الجارية.
الطريف أنّ صديقنا التركي، المقرب من قيادة حزب العدالة والتنمية، تحدّث في محاضرته عن الإطار الذي يريد الإسلاميون إقحام أردوغان فيه بوصفه إسلاميا، ووضع مواقفه في إطار مثالي أخلاقي، بعيداً عن حقيقة مهمة وهي أنّ الحزب بالفعل هو حزب علماني حقيقي، وليس إسلامياً. لكن الأكثر طرافة أنّ هذا “الإطار” ليس فقط الإسلاميون من وضعوا أردوغان فيه، بل حتى العلمانيون وخصومه، لأنّنا ما نزال في العالم العربي نشاهد ما حولنا بالمقلوب، نفرض تصوراتنا ومواقفنا على الوقائع ونلوّنها كما نشاء!