القرضاوي : منع الزواج من المشركات الوثنيات ثابت بالنص وبالإجماع أيضًا

عروبة الإخباري – الأسرة أساس المجتمع، وهي اللبنة الأولى من لبناته، التي إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، وعلى أساس قوة الأسرة وتماسكها، يقوم تماسك المجتمع وقوته؛ لذا فقد أولى الإسلام الأسرة رعايته وعنايته.

وقد جعل القرآن تكوين الأسر هو سنة الله في الخلق، قال عز وجل: “وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” (سورة النحل:72). بل جعل الله نظام الأسرة، بأن يكون لكل من الرجل والمرأة زوجٌ يأنس به ويأنس إليه، ويشعر معه بالسكن النفسي والمودة والرحمة، آية من آيات الله، قال سبحانه: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”(سورة الروم:21).

فالحياة الأسرية في الإسلام وعلاقة كل من الزوجين تجاه الآخر، ليست شركة مالية تقوم على المصالح المادية البحتة، بل هي حياة تعاونية يتكامل فيها الزوجان، ويتحمَّلان مسؤولية إمداد المجتمع بنسل يعيش في كنف أسرة تسودها المحبة والمودَّة، ولا يظلم أحد طرفيها الآخر، بل يدفع كل واحد منهما عن شريكه الظلم والأذى، ويحنو عليه.

وفلسفة الإسلام الاجتماعية تقوم على أن الزواج بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة، لذا يحث الإسلام عليه، وييسر أسبابه، ويزيل العوائق الاقتصادية من طريقه، بالتربية والتشريع معا، ويرفض التقاليد الزائفة، التي تصعبه وتؤخِّره، من غلاء مهور، ومبالغة في الهدايا والولائم وأحفال الأعراس، وإسراف في التأثيث واللباس والزينة، ومكاثرة يبغضها الله ورسوله في سائر النفقات.

ويحث على اختيار الدين والخلق في اختيار كلٍّ من الزوجين: “فاظفر بذات الدين تربت يداك”. “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفساد عريض”.

وهو — إذ يُيَسِّر أسباب الحلال — يسدُّ أبواب الحرام، والمثيرات إليه، من الخلاعة والتبرُّج، والكلمة والصورة، والقصة والدراما، وغيرها، ولا سيما في أدوات الإعلام، التي تكاد تدخل كل بيت، وتصل إلى كل عين وأذن.

وهو يقيم العلاقة الأسرية بين الزوجين على السكون والمودة والرحمة بينهما، وعلى تبادل الحقوق والواجبات والمعاشرة بالمعروف، “وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً”، (البقرة: 19). “وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، (البقرة: 228).

ويجيز الطلاق عند تعذُّر الوفاق، كعملية جراحية لا بد منها، بعد إخفاق وسائل الإصلاح والتحكيم، الذي أمر به الإسلام أمراً محكماً صريحاً، وإن أهمله المسلمون تطبيقاً: “وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً”، (النساء: 35).

المحرمات تحريما مؤقَّتًا

بعد هذا الاستطراد في الرضاع، وما يحرِّم منه وما لا يحرِّم، نعود إلى موضوعنا الأصلي وهو (المحرمات من النساء)، ونفصل القول في المحرمات من النساء تحريما مؤقتا:

أ‌ — زوجة الغير

ودليلُ ذلك قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[النساء:24]، فالمرأة المتزوِّجة ما دامت في عصمة زوجها لا يحل لها الزواج بآخر. ولكي تحل لزوج آخر لا بد من شرطين: أن تزول يد الزوج عنها بموت أو طلاق أو فسخ أو خلع، وأن تستوفي العدة التي أمر الله بها وجعلها وفاء للزوجية السابقة وسياجا لها، وقد فصلنا ذلك في أثناء حديثنا عن الخطبة المحرمة.

ب‌ — الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها

وقد حرم الإسلام على المسلم، وكان مشروعا في الجاهلية: أن يجمع بين الأختين، فإن الرابطة بين الأختين التي يحرص الإسلام على دوامها، ينافيها أن تكون إحداهما ضَرَّة للأخرى.

وقد صرح القرآن بتحريم الجمع بين الأُختين، وأضاف الرسول إلى ذلك قوله: “لا يُجمع بين المرأة وعمَّتِها، ولا بين المرأة وخالتها”. كما في الصحيحين وغيرهما. وقال: “إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم”. والإسلام يؤكِّد صلة الأرحام، فكيف يشرع ما يؤدي لتقطيعها؟!

وإذا زال سبب التحريم، وهو الزواج من الأخت أو بنتها أو بنت الأخ أو العمَّة أو الخالة، بموت أو طلاق، فهنا يجوز للرجل أن يتقدم لخطبة أخت مطلقته أو زوجته المتوفاة أو عمتها أو خالتها أو بنت أختها أو بنت أخيها.

ج — المشركات غير الكتابيات حتى يؤمن

ومن المحرَّمات المؤقَّتات: المشرِكة، وهي التي تعبد الأوثان، كمشركات العرب ومن شابههن من الهندوسيات والبوذيات وغيرهن من ذوات الأديان الوثنية، قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[البقرة: 221]، فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم. وقال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[الممتحنة:10] وسياق الآية والسورة كلها — سورة الممتحنة — وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات، أعني: الوثنيات.

والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض. ولهذا علَّل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة: 221]، ولا تلاقي بين مَن يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة.

أَيُّها المنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلًا عَمرَكَ اللَهَ كَيفَ يَلتَقِيانِ

هي شامية إذا ما استقلَّت وسهيل إذا استقلَّ يمانِ( )

وهذا الحكم — منع الزواج من المشركات الوثنيات — ثابت بالنص، وبالإجماع أيضًا، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في (بداية المجتهد) وغيره( ).

ويلحق بالمشركة الملحدة والمرتدة والبهائية.

بطلان الزواج من الملحدة

وأعني بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية، ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم؛ لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أندادًا أو آلهة أخرى اتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا.

وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:25]. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:3].

فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حُرِّمَ نكاحها تحريمًا باتًّا، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيِّزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين؟

إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقينًا.

وأبرز مثل لها: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيرًا ماديًّا على أنها إفراز المجتمع، ومن آثار ما يسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.

وإنما قلت: الشيوعية المصرَّة على شيوعيتها؛ لأن بعض المسلمين والمسلمات قد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يُخدع به حين يعرضه بعضُ دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان.. إلخ. فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق، حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته؛ فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات.

والحق أن الشيوعية مذهب مادي، لا يعترف إلا بكل ما هو مادي مُحَسٌّ، ويجحد كل ما وراء المادة، فلا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالرُّوح، ولا يؤمن بالوحي، ولا يؤمن بالآخرة، ولا يؤمن بأي نوع من أنواع الغيب، وبهذا ينكر الأديان جملة وتفصيلًا، ويعتبرها خرافة من بقايا الجهل والانحطاط والاستغلال، وفي هذا قال مؤسس الشيوعية كارل ماركس كلمته المعروفة: الدين أفيون الشعوب. وأنكر مع الماديين على الذين قالوا: إن الله خلق الكون والإنسان. فقال متهكمًا مع الذين قالوا: إن الله لم يخلق الإنسان، بل العكس هو الصواب، فإن الإنسان هو الذي خلق الله. أي اخترعه بوهمه وخياله.

وقال لينين: إن حزبنا الثوري لا يمكن أن يقف موقفًا سلبيًّا من الدين، فالدين خرافة وجهل.

وقال ستالين: نحن ملحدون، ونحن نؤمن أن فكرة (الله) خرافة، ونحن نؤمن بأن الإيمان بالدين يعرقل تقدمنا، ونحن لا نريد أن نجعل الدين مسيطرًا علينا؛ لأننا لا نريد أن نكون سكارى.

هذا هو رأي الشيوعية وزعمائها في الدين، ولهذا لم يكن غريبًا أن نرى دستور الحزب الشيوعي ودستور الشيوعية الدولية يفرضان على كل عضو في الحركة الشيوعية أن يكون ملحدًا، وأن يقوم بدعاية ضد الدين. ويطرد الحزب من عضويته كل فرد يمارس شعائر الدين، وكذلك تنهي الدولة الشيوعية خدمات كل موظف يتجه هذا الاتجاه.

ولو صحَّ جدلًا أن شيوعيًّا أخذ من الشيوعية جانبها الاجتماعي والاقتصادي فقط، دون أساسها الفكري العقائدي — كما خيل للبعض، وهو غير واقع ولا معقول — لكان هذا كافيًا في المروق من الإسلام والارتداد عنه، لأن للإسلام تعاليم محكمة واضحة في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية ينكرها النظام الشيوعي إنكارًا، كالملكية الفردية والميراث والزكاة، وعلاقة الرجل بالمرأة.. إلخ. وهذه الأحكام مما علم بالضرورة أنه من دين الإسلام، وإنكارها كفر بإجماع المسلمين.

هذا إلى أن الشيوعية مذهب مترابط، لا يمكن الفصل بين نظامه العملي وأساسه العقائدي والفلسفي بحال.

يحرم الزواج بالمرتدة ابتداء ويبطل إذا ارتدت بعد الزواج:

مثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله.

ونعني بالمرتدة والمرتد: كل من كفر بعد إيمانه كفرًا مُخرجًا من الملة، سواء أدخل في دين آخر، أم لم يدخل في دين قط، وسواء أكان الدين الذي انتقل إليه كتابيًّا أم كان غير كتابي، فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات.

والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المُكْرَه ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجُزْ له الخروج عنه.

وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة، وبعضها بالدنيا.

فممَّا يتعلَّق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدَّمه من عمل صالح، واستحقَّ الخلود في النار، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217].

الكتاب: فقه الأسرة وقضايا المرأة

المؤلف: د. يوسف القرضاوي

الحلقة الــ 21

Related posts

الأنصاري: جهود قطر في الوساطة بين حماس وإسرائيل معلّقة في الوقت الحالي

تعاون مشترك يهدف إلى خفض انبعاثات الكربون في الشرق الأوسط

بنوك مركزية خليجية تحذو حذو الاحتياطي الاتحادي وتخفض الفائدة