أحداث العام 1989 وتداعياتها عالميا وأردنيا، بما يرمز إليها بانهيار جدار برلين والاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية؛ وهي في الأردن الاحتجاجات الشعبية التي جرت في نيسان (أبريل) 1989، واستُوعبت بحياة سياسية جديدة تضمنت الانتخابات النيابية والتعددية السياسية، تلك الأحداث تمثل لحظة وعي جديد بالنسبة لي وكثيرين من أجيالي من المشتغلين بالعمل العام والثقافة. كانت لحظة عنوانها صعود الديمقراطية والحوسبة، بما تعنيه من انهيار الشموليات، وصعود الفرد في مواجهة المجتمعات؛ والشبكية في مواجهة الهرمية المؤسسية والمركزية.
كان السؤال البدهي والمؤسس للحظة الوعي تلك هو بطبيعة الحال “النهضة والازدهار؟”. لكن، ولسبب كان يبدو غامضا، كانت الإجابة أردنيا هي جدال بين استعادة اللحظة التاريخية التي تشكلت العام 1956، عندما تمكن تحالف وطني قومي يساري أن يشكل حكومة مستندة إلى أغلبية برلمانية، أو الاستجابة لموجة اجتماعية صعدت بقوة تعبر عن نفسها بمقولة “الإسلام هو الحلّ”. وأهدرت اللحظة التاريخية، كما أهدر “الربيع العربي” فيما بعد، في جدل أيديولوجي لا مجال فيه للاستماع. وبذلك، تحول سؤال النهضة والتنمية إلى صراع أيديولوجي لا مجال فيه للجدل؛ ليس ثمة إلا كفر أو خيانة. وكان ذلك مناسبا للسلطة السياسية والنخب المهيمنة على السوق والمؤسسات، لأنه جدل بعيد عن مصالحها ولا يمس بشيء احتكاراتها للنفوذ والموارد.
لكن تحولت الأيديولوجيا (الدينية والقومية واليسارية)، وبسرعة، إلى غطاء تجميلي لحراك قرابي وجهوي وشخصي. وصار الجدل صراعا اجتماعيا، ولم يعد ثمة جدل سياسي حقيقي؛ فهو ابتداء جدل لا ينشأ إلا في بيئة اجتماعية تستمد وجودها من الفردية الفردية والعقلانية الأخلاقية، وفي ذلك فإن الكتابة في الشأن العام تتحول إلى عداء مع السلطة والمعارضات والتيارات والمصالح الشخصية المسماة بأسماء مدنية وديمقراطية..
يمكن، ببساطة، التمييز بين العقلانية والأيديولوجيا بالتزام أصحاب فكرة أو مقولة باحتمالية أن يكونوا مخطئين واحتمالية معقولية وصواب الأفكار والمواقف الأخرى. وطالما أن ضمير أحد منا لا يتقبل احتمال صواب الآخر، فلا مجال إلا للصراع مهما تظاهرنا بالتقبل والحوار. لكن الأسوأ من يقين الأيديولوجيا وخلودها، أنه تتشكل حولها مؤسسات ومصالح أسوأ منها وأشد فسادا، ويصبح المساس بها حربا على مصالح وأشخاص واحتكارات راسخة.
لا يمكن مخاطبة أحد بالحجج العقلية الا إذا كان مستعدا للاستماع والتفكير العقلاني والخلافات التي مردها إلى مناهج عقلانية محدودة وتسهل إدارتها وتنظيمها. لكن عندما ينشِئ الناس مواقف أيديولوجية غير عقلانية، فلا يمكن أن يستمعوا إلى غير ما يريدون، ولا يملكون تصنيفا للأفكار والمواقف يسمح بالاختلاف أو القبول والتعايش؛ فالأيديولوجيا لا تنشأ عن موقف عقلاني، والتفكير العقلاني لا ينشِئ أيديولوجيا. وبذلك تتشكل محنة الكاتب المستقل أو حتى الكاتب المنحاز ولكنه يصدق أنه قادر على ممارسة عقلانية في فسطاطه!
وكما ذكرت سابقاً؛ لا يكتب أحدنا إلا ويتطلع أن يحظى ما يكتبه بأكبر عدد ممكن من التأييد، وما من أحد يشارك في شبكات التواصل إلا وهو يتطلع الى صداقة جميع الناس أو أكبر عدد ممكن منهم. وبذلك، فإننا نقدم أنفسنا وأفكارنا وآراءنا، ويعرف بعضنا بعضا كما نحن. وليس في ذلك ما يدعو، كما يفترض، إلى الكراهية والنفور؛ فكيف يتحول هذا السلوك البسيط إلى عداء وكراهية، بل وتضييق في الفرص والعمل والحياة؟
والكتابة ابتداء ألم ووحشة، حتى وأنت قادر على أن تكون حرا ومستقلا؛ فكلما تمضي في الكتابة تمعن في العزلة، إذ لا كتابة بلا قراءة، ولا قراءة من غير عزلة، ولا عزلة إلا ويصاحبها جهل اجتماعي. ثم تكتب ما تعرفه، ولكنك تجهل ما يتواطأ الناس على كتمانه.