إن صحت قراءات وتحليلات كثير جداً من الخبراء، فإن تنظيم “داعش” الإرهابي سينتهي، قريباً، في سورية والعراق؛ مع الإقرار بقسوة الحرب ضده وكلفها العالية. غير أن ذلك لا يعني أبدا زوال فكر، ومن ثم تهديد، مثل هذه التنظيمات؛ بل يرى الخبراء أنها قد تذهب إلى مزيد من التشدد والدموية، كما يُظهر التطور التاريخي لهذا الفكر.
هكذا، فإن زوال الوجود التنظيمي لـ”داعش” وأمثاله ممن لا يختلفون معه في العمق بالمحصلة النهائية، لا يعني أن الأردن سيرتاح، بل قد يكون ذلك مدعاة لمزيد من القلق، وبالتالي حافزاً لمزيد من الاستعداد لمواجهة الوضع الجديد المتوقع، من حقيقة أن لدينا آلاف الشباب الأردنيين المؤمنين بهذا الفكر المتطرف أو المتعاطفين معه على الأقل، وهنا مكمن الخطر.
فهؤلاء الشباب الموجودون بيننا سيشكلون تحديا أكبر من السابق، مع نهاية الحرب على تنظيم “داعش” في سورية والعراق، عبر مزيد من الضغوط الداخلية، تأتي من عدة قنوات.
يعني ذلك أن الحرب على الإرهاب طويلة ومضنية. وعلى الدولة، بعد عملية “الركبان” الإرهابية التي فقدنا فيها شبابا بعمر الورد، الالتفات أكثر أيضاً إلى الساحة الداخلية، لأنه، وإن كان مطلوبا هزيمة تنظيم “داعش” في الدول المجاورة، إلا أن ذلك سيمثل حافزاً لتسلل عناصره إلى المملكة، والعمل ضدها.
وهنا نعود إلى التأكيد على أنه سيبقى الفكر المتطرف والإرهابي قابلا للتجدد والتطور نحو مزيد من الإجرام، طالما أن بعض الأسباب الموضوعية لانتشاره ما تزال ماثلة أمامنا؛ وأخطرها الآن تلك الانتهاكات التي تمارس في سورية والعراق تجاه المكوّن السُنّي. فالانتهاكات في معركة استعادة الفلوجة بحق سكان المدينة، مخزية؛ والجرائم التي تُرتكب هناك، وتوثقها الصور والفيديوهات، بحجة القضاء على صنف واحد من الإرهاب، هي جرائم تؤسس لبيئة حاضنة جديدة للأفكار المتطرفة.
وكذلك الأمر بشأن ما يحدث في سورية من قبل النظام والقوى الداعمة له؛ فليس لنا تخيل أن ما يرتكبه هؤلاء من انتهاكات، كفيل باستئصال أفكار التنظيمات الإرهابية، بل العكس، أي حقنها بالحياة! إذ طالما بقيت المظلومية قائمة، تظل البيئة مواتية لبث سم التطرف والإرهاب في عقول الناس.
وسط أخطاء الساسة في الإقليم، يصبح الأردن تحت ضغوط أكبر. وهذا يقودنا، مرة أخرى، للحديث عن معركتنا الفكرية ضد “داعش” وأشباهه، والتي لم تبدأ بعد. وإن بدأت، فإنها ما تزال قاصرة منقوصة الدسم والأدوات، وحتى الإرادة في بعض الأحيان.
آخر الأخبار محليا تؤكد أن “وحدة محاربة التطرف” المكلفة بمتابعة تطبيق استراتيجية مكافحة التطرف، والتي يرأسها اللواء المتقاعد شريف العمري، نقلت مقرها من وزارة الداخلية إلى وزارة الثقافة. وقد كان يُفضل وجود “الوحدة” في رئاسة الوزراء، لإعطائها السلطة والقوة في المتابعة مع جميع المؤسسات والوزارات المعنية، الالتزام بالدور المطلوب منها. إلا أن الرسالة من نقل المقر ربما تكون التأشير إلى تغير في العقلية التي تدير الملف، ولاسيما حصول تحول في ماهية إدارة الحرب ضد الإرهاب؛ بإعلاء شأن المعركة الفكرية الثقافية التنويرية في هذه الحرب، وبحيث لا تقتصر على المعركة العسكرية والأمنية. فهذه الأخيرة، أياً ما كانت فعاليتها ومهما بلغت نجاحاتها، لن تنجح، في المقابل، بنزع الفكر المتطرف الإرهابي من عقول شبابنا أو تحصينهم منه.
القضاء على “داعش” وأشباهه يحتاج بيئة اجتماعية وفكرية واقتصادية تحتضن الانفتاح والتنوير والإبداع، وتقضي على أشكال التمييز والتهميش، وتؤسس لقواعد العدالة الاجتماعية. بغير ذلك، سنظل، عرفنا ذلك أم لم نعرف (وفي الحالين ثمة مشكلة خطيرة)، نوفر البيئة المواتية لهذا الفكر حتى يبقى ويتجدد.