في غضون أسبوع واحد، خطت حركة “حماس” خطوتين واسعتين باتجاه إعادة التموضع مع إيران. الأولى، كانت عبر تصريح انتقل فيه د. موسى أبو مرزوق من النقيض إلى النقيض، خلال أربعة أشهر فقط؛ من وصف القيادة الإيرانية بأنها باطنية وكاذبة، إلى اعتبارها دولة داعمة بسخاء لا يجاريه أي بلد عربي. أما الثانية، فقد أتت على لسان الشيخ إسماعيل هنية، بقوله إن إسرائيل باتت عضواً في التحالف السُنّي العربي (المناهض لإيران).
هذه الاستدارة الحمساوية، المتزامنة مع حالة استقطاب شديد بين إيران وبين -ما يسميه محور الممانعة- التحالف السُنّي (عرب وأتراك)، أتت كنتيجة لسلسلة من الزيارات التمهيدية جرت على مدار عدة أشهر، أو ربما كمحصلة لوساطات قام بها حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي، الأمر الذي جعل هذا المديح العلني لجمهورية آيات الله أقرب إلى الشرط المسبق، أو دفعة مقدمة على الحساب، أداها أبو مرزوق مكرهاً بعظمة لسانه.
ليس خافياً أن “حماس” القائمة بسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، تعيش أزمة حادة على الصعيدين المالي والسياسي، وأنها في الذكرى السنوية العاشرة لانقلابها الدموي على نفسها، خسرت كل الرهانات، وفقدت أهم الحلفاء، وباتت أشد عزلة مما كانت عليه، خصوصاً بعد انقضاء عمر الإسلام السياسي القصير. وأنها فوق ذلك قد تتعرض مجدداً لرابع عدوان إسرائيلي، ينذر بالقضاء على حكمها هذه المرة، بحسب ما تلهج به ألسنة أركان الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل.
يمكن لهذه الأوضاع الذاتية الصعبة أن تسوّغ لبعض قيادات “حماس” ضرورة العودة الجبرية إلى أحضان إيران، كمخرج لا بديل عنه، من أجل البقاء على قيد الحياة السياسية في القطاع المحاصر. غير أن مثل هذه الهرولة الخفيفة على درب زلق، لم تكن مقنعة لجمهورها ولا للمدافعين عنها بالعرض وبالطول، حيث قوبلت بانتقادات قاسية، حتى من جانب شيوخ وقادة ونشطاء صدمهم كل هذا الإطراء المحرج لنظام الولي الفقيه، الغارق في دماء السوريين والعراقيين حتى الركب.
كانت صدمة مثقفين وإعلاميين عرب على “تويتر” أشد وقعاً مما بدت عليه صدمة الفلسطينيين أنفسهم إزاء هذا التحول الذي شرعت به “حماس” في أسوأ الأوقات على الإطلاق، حيث يخوض الحرس الثوري الإيراني ومليشياته الطائفية حرباً على المكشوف ضد عرب المشرق واليمن والخليج، فيما يدعي قادته أنهم باتوا يسيطرون على العاصمة العربية الرابعة، ويزعمون أن قتالهم في حلب والفلوجة وتعز، دفاع في الخط الأول عن العمق الإيراني الحصين.
كان السؤال الطافح بالمرارة، المتواتر على ألسنة مراقبين عرب مذهولين بهذا التحول المدمر، أقله من حيث التوقيت: هل جننتم؟ هل ترى “حماس”، حقاً، وهي تيمم وجهها شطر المرشد الأعلى وقاسم سليماني، أن أهمية غزة تفوق أهمية بلاد العراق والشام؟ وهل لمصلحة جزئية مؤقتة، قوامها رواتب نحو خمسين ألف حمساوي، أن تعلو على مصائر عربية بعيدة المدى، على قاعدة “ربحنا غزة وخسرنا الجزيرة العربية والهلال الخصيب”.
ومع أن طريق “حماس” إلى طهران لا تمر، بالضرورة، عبر الزبداني وحمص وداريا (على غرار دروب حزب الله)، بل طريق يمكن اجتيازها بمزيد من التنازلات الباهظة لخطاب نظام الملالي، القائم على مبدأ الأخذ قبل العطاء، إلا أن هذه التنازلات ستكون مكلفة وثقيلة على صورة “حماس” وعلى سمعتها، وربما كارثية على مستقبل الحركة المستميتة على الاحتفاظ بآخر بقعة من الأرض بقيت تحت حكم حركة الإخوان الدولية. كما أن التغريد خارج السرب العربي هكذا من شأنه تشديد العزلة، بدل تخفيفها على الحركة التي كثيراً ما بدلت اصطفافاتها.
لقد كان حديث نائب رئيس حركة “حماس” عن عضوية إسرائيل في التحالف العربي السُنّي (وهو حديث طائفي ينهل من قاموس إيراني)، أشبه برسالة تملّق غير مشفّرة، تخاطب طهران حصراً، فوق أن هذا النفس البغيض أبعد ما يكون عن مألوف الخطاب الوطني الفلسطيني، المتطهر تاريخياً من مثل هذه اللغة الكريهة، حيث بدا أول وآخر رئيس حكومة حمساوية، كمن يغزل على نول الدعاية الإيرانية الهاذية ضد التحالف العربي بقيادة السعودية، وينحاز من دون حرج إلى من وصفهم أبو مرزوق، بالأمس القريب، بأنهم باطنيون وكذّابون ومراوغون دهاة.