المؤسسات الدولية.. والاصلاحات الاقتصادية/ الدكتور ابراهيم بدران

استقبل الاردن خلال السنوات الماضية أعداداً هائلة من اللاجئين تصل نسبتهم الى 50% من السكان، وهي من اعلى النسب في العالم. وضغطت هذه الاعداد بقوة على موارد الدولة المحدودة، سواء كانت المياه أو الطاقة أو الغذاء أو الصحة أو النقل أو التعليم أو فرص العمل أو الأمن الإجتماعي. وتقبل الاردنيون كل ذلك بعناء و مشقة،و لكن بسعة صدر وتعاطف ،انطلاقا من الموقف العروبي والانساني الراسخ للدولة الاردنية بشعبها و قيادتها و ثقافتها. ومع أن المجتمع الدولي أشاد بالموقف الاردني، الا ان مشاركة الدول الأخرى بتحمل الاعباء والتبعات كانت محدودة للغاية، كما لم تتحمل الدول التي أجبرت هؤلاء اللاجئين على هجر بيوتهم و أوطانهم أية مسؤولية بكل أسف. الامر الذي يجب ان ينبهنا بقوة الى المستقبل، وبالتالي ضرورة العمل بطريقة مختلفة .فانتظار مزيد من المساعدات لكي تتحسن الأوضاع من خلالها، وانتظار عودة اللاجئين السوريين و الليبيين و اليمنيين خلال فترة قصيرة، ما هو إلا إضاعة للوقت و مدعاة لمزيد من الإحباط و تفاقم المشكلات. إضافة ،فإن عدم استقرار المنطقة و احتمالات الصفقات السياسية،و التسللات الإسرائيلية في كل مكان ،و تراجع المشاركة الدولية، و تدني أسعار النفط ،و الضائقة المالية المزمنة، كل ذلك ،يجب ان يكون مدعاة للشروع في التغيير الاقتصادي الاجتماعي المبرمج، اكثر منه مدخلا للاعذار التي لا تجدي نفعاً.
ان الاشكال الكبير الذي يحيط بالحالة الاقتصادية الوطنية، وبالتالي تعاني منه الدولة و تتحمل مشقته معظم الشرائح المجتمعية ،ان تركيز الحكومات المتعاقبة كان دائما على الجانب المالي، وكيفية الحصول على مزيد من الأموال لسد عجز الموازنة الذي يتزايد عاما بعد عام، دون الالتفات الحقيقي الجاد الى الجانب الاقتصادي. حتى بمواجهة مشكلة اللجوء السوري، كانت المطالبات في مؤتمر لندن موجهة بالدرجة الأولى للمساعدات المالية، وليس للمشاريع التشغيلية الانتاجية ، أو المشاريع الإقليمية الكبرى لتكون على نفقة المجتمع الدولي كخطوط النفط والغاز التي يمكن ان تخلق فرص عمل جديدة لابناء وبنات الوطن ومن ثم اللاجئين. بهذا نحن نشبه شخصا لا يكفيه دخله لمواجهة نفقاته واحتياجاته فيسارع دائما الى الإقتراض سنة بعد سنة، بدلا من العمل على زيادة دخله وتنويع مصادر هذا الدخل. ولذا يبقى في أزمة مستمرة و متفاقمة. ورغم سذاجة المثال إلا انه يمثل جوهر الحقيقة.
وهكذا نحن منذ (25) سنة. نسعى، ونتحرك ونسارع ،ونرفع ونخفض، ونسمح ونمنع،كل ذلك للحصول على مزيد من الاموال من المساعدات والمنح والقروض، و ليس لإعادة بناء الإقتصاد الوطني الحديث الذي يولد الثروة للأفراد و للدولة على حد سواء. ونضطر الى الالتزام بما يطلبه الممولون والدائنون والمانحون، ونسمي هذا “الحركات” برنامج “اصلاح إقتصادي”. أما ما هي معدلات النمو الاقتصادي، وما هو حجم الانتاج السلعي، وكيف نجلب الاستثمارات الوطنية والدولية للمشاريع الإنتاجية الجديدة ،وكيف ندخل مرحلة التصنيع ،وكيف نصنع الزراعة والنقل والسياحة، وكيف نعالج المشكلات التي تعاني منها القطاعات الاقتصادية المختلفة، فهذا لم يدخل في اهتمام الحكومات السابقة إلا بصورة شكلية للغاية.ولذا فالدولة لا تعمل وفق خطط مستقرة على زيادة الانتاج وتنمية القدرات الاقتصادية وزيادة معدل النمو الاقتصادي وتشجيع المستثمرين الوطنيين أولا ليتشجع الآخرون للدخول في مشاريع جديدة انتاجية مولدة لفرص العمل، بل إعتمدت على الإستيراد حتى في أبسط السلع . كذلك كانت الحكومات تتحدث عن تنمية المحافظات ولكن لا تعمل على انشاء المشاريع فيها ولا تدخل شريكا مع مستثمرين في مشاريع و لا تحفز الجمعيات التعاونية وصناديق الإستثمار على ذلك، و لا تدفع باتجاه رفع كفاءة العمالة وزيادة الانتاجية ، مما أدى إلى إتساع فجوة الثقة بين القول والفعل. بمعنى آخر ان كل ماله علاقة فعلية بزيادة حجم الاقتصاد وتصنيع الاقتصاد ورفع معدلات النمو فيه وتعظيم القيمة المضافة له، لم تعطه الحكومات المتعاقبة اي اهتمام . بل حتى لو تعثرت الشركات ،واغلقت المصانع ابوابها ،وسرحت عمالها ، وبالتالي تقلصت الامكانات الاقتصادية، فإن الحكومات كانت تقف متفرجة و كأن الأمر يقع في بوركينافاسو.
وعلى مدى السنوات الماضية كان معدل النمو الاقتصادي حول 3% ومعدل النمو السكاني أعلى من ذلك بكثير، أي ان متوسط دخل الفرد كان في تناقص، ولم يكن ذلك يشكل أي “صدمة”. وهذا يفسر لنا المشقة التي يعاني منها المواطنون. ومع هذا لم تضع الحكومات برامج حقيقية فعلية ابداعية جديدة لرفع معدل النمو الى 6% أو 8% وهي أرقام ممكنة وتعاملت معها دول كثيرة .وإذاك تنخفض قيمة المديونية كنسبة مئوية للناتج المحلي وهذا لا بأس به.
ان كل ما له علاقة بالمساعدات والقروض إجتهدت فيه الحكومات كل الاجتهاد حتى وصلت المديونية 93% من الناتج المحلي الاجمالي، في حين ان القانون الاردني لا يسمح بأن تتجاوز المديونية 60% من الناتج المحلي الاجمالي ،و وصلت العمالة الوافدة و اللاجئة 1.25 مليون شخص، في حين تعدت البطالة حاجز 14%. ويطلب صندوق النقد الدولي تخفيض المديونية الى 73% من الناتج المحلي الاجمالي خلال (4) سنوات حتى يوافق على برنامج الاقتراض الجديد.،و يطاب المانحون 200 ألف فرصة عمل للاجئين من سوريا.

رغم مرور ما يقرب من (25) سنة على الازمة الاقتصادية الأولى ودخول الاردن في “برامج التصحيح” المتوالية إلا ان الصورة ربما لا زالت غير واضحة لكثير من المسؤولين وللمواطنين على حد سواء. فلقد درج استخدام عبارة “الاصلاح الاقتصادي” وهي الاكثر شعبية وتجاوبا مع تطلعات المواطنين، بدلاً من “التعديل المالي” والتي لا يتعاطف معها الجمهور ولا يتفاعل مع محتوياتها. و هنا علينا أن نتذكر دائما و بشكل قطعي: “أن المؤسسات الدولية لا تتولى ولا تبرمج عمليات الاصلاح ،ولا تقوم بالمبادرات ولا تضع الخطط التنفيذية لتغيير البنية الاقتصادية للدولة .فذلك شأن خاص بالدولة نفسها.و هي المسؤولة عنه جملة و تفصيلا” .أما المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي فإن “تدخلها مرتبط بالتسهيلات المالية التي تطلبها الدولة لكي تضمن سداد القروض “. ولذا فهي تفكر مع الدولة في زيادة وارداتها أو تقليص نفقاتها حتى تتوفر لها الأموال التي تسدد من خلالها الديون التي كانت قد طلبتها من الصندوق أو غيره من المؤسسات المالية، بغض النظرعن الاشكالات الاقتصادية والاجتماعية المرافقة.
انها حلقة مفرغة مضى على الدوران حولها سنوات طويلة .حتى صندوق الاستثمار الجديد لم توضع فيه أية شروط تتعلق بالعمالة الوطنية مثلا، أو المشاركات الوطنية و تم حذف التحفظ على مشاركات الإسرائيلية وتم اصدار القانون بشكل متسرع لا يضمن احدا إن كان سيؤثر في بنية الاقتصاد على المدى القريب والمتوسط، أو ان عائداته ستكون للخارج، تماما كما هو الحال في “المناطق الصناعية المؤهلة”.
وأخيراً، فإن تغيير البنية الاقتصادية نحو اقتصاد الإنتاج ، هو المدخل الأساس لحل المشكلات المالية و الإجتماعية على حد سواء. و هي مسؤولية وطنية مطلقة، وما تقدمه المؤسسات الدولية من أفكار أو شروط لا تعني أي شيء في الميزان الاقتصادي بقدر ما تعني ترتيبات مالية لوضع مالي معين. وهذا يعني ان مستقبل الاقتصاد الوطني، ومستقبل معيشة المواطن ،لن يتحقق فيهما اي شيء ايجابي الا اذا انطلقت الارادة والعقول والادارات والسواعد الاردنية في العمل والانتاج و الإبداع.فهل تنتهج الحكومة الجديدة نهجا جديدا؟ ذلك ما يتطلع إليه المواطنون، وما يمكن أن يصنع المستقبل المزدهر في منطقة شديدة الإضطراب.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات