أخيراً، حُسم الجدل بشأن توجه الحكومة إلى رفع أسعار الكهرباء من عدمه؛ إذ جاءت التعليمات من صاحب القرار بعدم رفع الأسعار، والبحث بدلاً من ذلك عن حلول محلية تستجيب لمتطلبات صندوق النقد الدولي لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الجديد، للفترة 2017-2020.
ولأن التعليمات، كما الرسالة الكلية، واضحة، فقد بدأت الحكومة فتح دفاترها للبحث عن مصادر توفر الإيراد المطلوب تحقيقه، من دون المس بمعيشة المواطن عبر زيادة أسعار سلع وخدمات حساسة، مثل الكهرباء وغيرها، لاسيما أن عدم الاقتراب من تعرفة الكهرباء يعني، حكماً، عدم التفكير في زيادة أسعار المياه، والتي ترتبط تسعيرتها بتقديرات الكهرباء، وتحديدا كلف ضخ المياه.
العمل لن يتوقف عند هذه الحدود. فما هو مطلوب من صندوق النقد الدولي لإبرام الاتفاق النهائي معه، ليس بالهيّن. إذ يشترط الأخير زيادة الإيرادات المحلية بحوالي 150 مليون دينار، وهو ما تسعى الحكومة الى الاستجابة له من دون المس بحياة الناس. لكن، بدأت الحكومة تفكر فعلياً بزيادة الضرائب على بعض أصناف الكحول، وأيضا على السجائر، بما لا يضر بمبدأ “الوقاية من تهريب هذه السلعة”؛ أي هي زيادة بشكل ينعكس إيجاباً على الموارد المالية للخزينة، إنما مع ضبط التهريب في الوقت ذاته.
بعد ذلك، على الحكومة التخطيط جيدا لإنجاز مطلب “الصندوق” الأصعب، وهو تثبيت نسبة زيادة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند حدود النمو الاقتصادي؛ بحيث لا تقفز هذه النسبة خلال العام الحالي على أقل تقدير. وهذا أمر ممكن، لكنه ليس سهلا بالمطلق.
ستبقى أسعار الكهرباء مشكلة تلوح لنا كلما ارتفعت أسعار النفط عالمياً. ومن ثم، تقتضي الحكمة مضيّنا في تطوير نظام التوليد محليا لتخفيف الكلف؛ من مثل توقيع اتفاقيات لتوليد الكهرباء بالفحم الحجري، وآخرها التي وقعتها الحكومة مع مجموعة المناصير. كما توسيع هذا القطاع وغيره، بحيث تعدد المصادر وتقل الكلف، بشكل يحدّ من حجم الضغوط.
ومراوحة سعر النفط حالياً عند 50 دولاراً للبرميل، يعني عدم تحميل الخزينة أي خسائر مالية لشركة الكهرباء الوطنية، التي اشترط “الصندوق” أن لا تزيد خسائرها عن تلك المتراكمة في سنوات خلت، وتُقدّر بحوالي 5 مليارات دينار، تحمّلها الاقتصاد عقب انقطاع الغاز المصري، بالتزامن مع ارتفاع الأسعار العالمية للنفط، إذ يكلف كل دولار يرتفع على أسعار النفط الخزينة مبلغ 17 مليون دولار.
أما العمل الأصعب من كل ما سبق، فهو سعي الحكومة إلى تخفيض الدين العام من نسبة 93 % من الناتج المحلي الإجمالي، إلى نسبة %77 خلال سنوات برنامج الإصلاح الجديد. وهنا علينا تذكر أن “الصندوق” يشترط، لكنه لا يساعد كثيراً على تحقيق الهدف. بل وتؤكد تجربتنا مع المؤسسة الدولية خلال السنوات الماضية، عدم نجاح وصفاتها بالضرورة في تحقيق النتائج المستهدفة عموماً. وحتى خارج الأردن، فإنه ليس كل ما ينظّر له خبراء “الصندوق” صحيحا ومضمون النجاح، وخير مثال هنا اليونان التي عجز “الصندوق” عن إخراجها من أزمتها، رغم كل ما قال وفعل.
هنا تتقدم أهمية التخطيط الوطني المنتمي، على وصفات الأجانب الذين يبقون -مهما علا شأنهم في العلم والمعرفة-جاهلين بأحوالنا ومعطياتنا المحلية؛ فأي وزير مدرك لحجم مشكلة البلد ويرغب في العمل، يستطيع إحداث فرق إيجابي مهما كانت الأحوال؛ إن توفرت الإرادة.
إبرام اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي سيتم عاجلا أم آجلا. لكن ليس من مصلحتنا أن نركن إلى وصفاته المعلبة، وننتظر منه حلحلة مشاكلنا. بل يلزم أن تكون الأفكار المحلية حاضرة، مع توفر القدرة لدى كل وزير على تطبيق استراتيجية تطوير قطاعه.
إذن، الأهم هو التنفيذ وعدم ترحيل العمل. ويبدو أن الفكرة تعجب رئيس الوزراء د. هاني الملقي؛ إذ رفض مطالب وزراء في فريقه بتطوير استراتيجيات وزاراتهم قبل الشروع في تنفيذها، وكان رد الرئيس واضحا: “نفذ الموجود وكتر الله خيرك”.