المعلومات التي تتكشف تباعا عن شخصية منفذ جريمة أورلاندو بولاية فلوريدا الأميركية؛ عمر متين، تضعنا أمام أسئلة محيرة حول عناصر الجاذبية للتنظيمات الإرهابية، وهوية الأشخاص الموالين لها.
متين اعتمر مرتين، على ما أفادت مصادر رسمية سعودية؛ وملتزم دينيا على ما تقول زوجته السابقة. لكن هو ذاته الشخص الذي ارتاد نادي المثليين أكثر من اثنتي عشرة مرة، وفق شهود أكدوا ذلك بشكل قاطع.
ومتين ليس مهاجرا مهمشا في أميركا؛ فهو يحمل الجنسية، ويتمتع بحقوقها كاملة، ونال تعليما جيدا. وعائلته تنتمي إلى الفئة الأولى من الطبقة الوسطى، ووالده شخصية معروفة في أفغانستان، وكان ينوي الترشح لمنصب رئيس الجمهورية هناك.
التقارير الاستخبارية الأميركية مقتنعة بأن متين لا يرتبط بعلاقة تنظيمية مع “داعش”، ولم يتلق تعليمات مباشرة لتنفيذ جريمته الإرهابية.
لكن شخصية بكل هذه التناقضات ارتكب جريمة مروعة؛ قتل 49 شخصا وأصاب عددا مماثلا في غضون دقائق، وأعلن عبر اتصال هاتفي مع خدمة الطوارئ ولاءه لداعش.
سيرة المئات من منفذي الاعتداءات الإرهابية كانت على الدوام تُظهر أن مرتكبيها كانت لهم سوابق جنائية، وسيرة مع المخدرات، لكنهم وجدوا طريقهم للتدين، ثم التشدد والتطرف، وصولا إلى أحضان “داعش”.
متين شخصية مختلفة؛ محارب متخف بصفوف “داعش”، يرتاد في الوقت نفسه ناديا للمثليين ويشرب الخمر، وزوجته الثانية -مثل الأولى- غير محجبة.
إنه نموذج لصنف من الأشخاص المضطربين نفسيا. وفي حالة متين، ثمة اضطراب واضح في الهوية، لم يتمكن من تجاوزه رغم السنوات الطويلة التي عاشها في المجتمع الأميركي، والتعليم الذي تلقاه في مدارسها وجامعاتها، لا بل والانتساب لها في الهوية والثقافة.
و”داعش”، بما يمثله من خروج سافر عن كل ما سبقه من حركات راديكالية، يتحول إلى ملاذ لأولئك الأشخاص المضطربين روحيا، حتى لو لم يكونوا قانعين بسلوكه ونموذج حكمه.
كان بمقدور متين، وهو أفغاني الأصل، أن يعود أدراجه إلى بلده الأصلي، وينخرط في صفوف حركة طالبان التي تلتقي مع “داعش” على قواسم مشتركة كثيرة؛ أو أن يلتحق بتنظيم “داعش” في سورية أو العراق كما فعل كثيرون من أبناء المهاجرين في أوروبا وأميركا.
لكن متين مضطرب قبل أن يكون متشددا، اختار محاكاة النموذج الداعشي عن بعد؛ فمن هم على شاكلته لن يحتملوا أبدا الانحياز الكامل والامتثال المطلق لحكم “داعش” وثقافته.
كل ما فعله متين أنه استلهم نموذج “داعش” في القتل؛ ليس انتصارا له بالمعنى الذي كانت عليه تفجيرات باريس مثلا، وإنما هروب مميت من أزمة هوية تعصف فيه منذ زمن.
لقد كان يضرب زوجته الأولى بعنف، ويمارس معها سلوكا عدائيا، ولا يتردد في إهانتها. كان يمكن أن ينتهي به الأمر إلى قتلها، وقضاء حياته من بعد ذلك في السجن.
لكن “داعش”، بما يمثله من وحشية، منح حتى الأشخاص المضطربين والمأزومين في هوياتهم وعلاقاتهم مع النساء والمجتمع والحداثة، فرصة الانتقام الجماعي، وليكن باسم التنظيم؛ فلربما شرب متين نخب “داعش” في النادي ذاته قبل أن ينفذ جريمته.