أصدرت مؤسسة فريدريش أيبرت (مكتب عمّان)، أخيراً، كتاباً يتضمن أعمال مؤتمر عقدته العام الماضي بعنوان “سر الجاذبية: داعش التجنيد والدعاية السياسية”، يتضمن أوراق عمل مهمة لنخبة من الخبراء العرب والأجانب عن الأسباب والعوامل التي أوجدت جاذبية هذا التنظيم لآلاف الشباب العرب والمسلمين، وحتى نسبة من المتحوّلين من المسيحية إلى الإسلام.
غطت أوراق الكتاب المروحة المتنوعة من العوامل المختلفة والمتعددة في مجتمعات ودول عديدة، من سياسية ومجتمعية واقتصادية، في كل من سورية والعراق ولبنان والأردن وشمال إفريقيا والخليج وأوروبا، لنصل، في نهاية المطاف، إلى قناعةٍ بأنّنا أمام واقعٍ مركب من الأزمات يدفع نسبة كبيرة من الشباب إلى الطريق الراديكالي؛ بداية من ‘الأزمة السنية” في العراق وسورية، مروراً بسؤال الهوية، وصولاً إلى قضايا التهميش وضعف الإدماج السياسي أو الاقتصادي والمجتمعي.
بالفعل، هي عوامل لا يمكن إنكارها، لكنها تتضافر مع عامل آخر، لم يحظ بالاهتمام المطلوب من الخبراء، وهو المخيال الخصب في العقل الإسلامي المعاصر، المسكون بالرموز والمثالية الانتقائية لمفهوم الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة (وفق تأويل أدبيات التنظيم لها)، والبحث عن عدالة السماء، في ظل العدالة المفقودة في المجتمعات العربية والمسلمة اليوم، والتوق إلى نظام سياسي “إسلامي”، تتحقق فيه الأفكار والمفاهيم المبثوثة في حنايا التراث والفكر الإسلامي، عن هذه الدولة اليوتوبيا التي قد لا تكون موجودة حقاً بالواقع، ولا بالصورة المتخيلة لدى الجيل الداعشي الجديد.
من الخطأ الاستهانة أو التقليل من شأن الرمزية التي صنعتها دعاية داعش حول الدولة التي أقامها التنظيم، أو الخلافة التي أعلن عنها، فهذه المفاهيم بقيت تلعب دوراً كبيراً في أيديولوجيا الإسلاميين وطروحاتهم السياسية، خلال العقود الأخيرة، وإنْ كان طيف من الحركات الإسلامية (التي انخرطت في اللعبة السياسية) تخلت عنها عملياً لصالح الدولة الوطنية الديمقراطية. لكنها (هذه المفاهيم) بقيت حية ومتحركة في مخيال نسبة كبيرة من الإسلاميين، وخصوصاً الجهاديين اليوم.
عزّز فشل الدولة القطرية العربية المعاصرة في بناء الشرعية السياسية والدينية، وفي تحقيق الحد الأدنى من العدالة والإدماج والمساواة أمام القانون في تعزيز هذا الحلم- اليوتوبيا الموعود لدى هذا الجيل، فبقي يبحث عنه بوصفه خلاصاً من الواقع المأزوم، وعنواناً بديلاً تتحقق فيه القيم الغائبة، ويتمثل بالقوة المفقودة في النظام الإقليمي والرسمي العربي المأزوم اليوم أكثر من أي وقت مضى، مع صعود النفوذ الإيراني والمسألة الطائفية وحالة الضعف السافرة التي تعاني منها الدول العربية.
من شاهد الفيلم القصير الذي أنتجته ولاية سرت، التابعة للتنظيم في ليبيا، “من الذل إلى العز” سيواجه هذا المخيال الخصب، فالشباب الأفريقي الذين يظهرون في الفيلم يتحدّثون عن الدولة الموعودة، ويدعون الآخرين إلى الانضمام إليها، لأنها “تحكم بالشريعة” و”تحقق المساواة والعدالة بين الجميع”. فيلم “والله متم نوره”، أيضاً، الذي أنتجته ولايه صلاح الدين التابعة للدولة في العراق، يقدّم هو الآخر الدعاية السياسية والدينية نفسها، يقدّم مشاهد من الحياة اليومية في الولاية، من القتال؛ بما يعتبره التنظيم دفاعاً عن المسلمين، وصور من الحسبة؛ التأكيد على إقامة الشريعة، وجباية الزكاة، وغيرها من مفاهيم وتطبيقاتٍ يرى أعضاء التنظيم وأنصاره أنها تطبيق لمعنى الدولة الإسلامية، وتداعب الخيال العام للتراث الفكري الإسلامي.
ليس هذا المقال في موضع النقد أو الرد على هذه الدعاية. لكن، من الضروري أن تؤخذ بعين الاعتبار في مناقشتها فقهياً وفكرياً، عبر خطاب إسلامي معتدل بديل، يمتلك المصداقية والعمق في الولوج إلى عمق هذا المخيال ومناقشته. لكن، بالتوازي مع هذا وذاك، فإن الرد الواقعي على هذا المخيال يكمن في برنامج سياسي واقعي بديل، لإصلاح الأنظمة العربية وبناء مفاهيم العدالة والمساواة والشرعية السياسية المطلوبة، والعملية السياسية التي يجد هؤلاء الشباب أنفسهم فيها، فلا يضطرون إلى البحث عن مخارج راديكالية، وحلول خيالية، لأزمات واقعية.