استعادة النظام العربي/ ميشيل كيلو

من غير المعقول أن نتحدّث اليوم عن وجود شيء اسمه “النظام العربي”، بينما يقتل منذ أكثر من خمسة أعوام شعبٌ لا شك في عروبة أغلبية من ينتمون إليه، من دون أن تفعل جامعة الدول العربية شيئاً لوقف المجازر التي يتعرّض لها، أو تبذل الدول العربية أيَّ جهدٍ مستقل ومباشر لإنقاذه، ليس من باب الحرص عليه، بل لتأكيد صحة ما يدّعيه بعضها، ولا يصدّقه حتى بسطاء العرب، حول وجود نظام عربي يغطي المجال الذي كان يسمى ذات يوم “قومياً”، وينظم علاقات حكوماته ببعضها ومع شعوبها. هل يصح القول بوجود نظام عربي، إذا كان الشعب السوري يُباد بيد حكومته، ودولتين أجنبيتين (روسيا وإيران) من دون أي رد فعلٍ يتناسب وما يحدث، وكانت إحدى هاتين الدولتين، عنيت دولة ملالي طهران، تؤكد تصميمها على تقويض وجود العرب السياسي برمته، بالعمل على إلحاق بلدانهم بها، وإخضاعها لمصالحها وخياراتها، بينما غزت روسيا بوتين سورية في ظل صمت “قومي” مريب، واحتلتها بالتنسيق مع إسرائيل، بحجة إنقاذ الأسد ونظامه الذي دأب على إطلاق تهديداتٍ خطيرة ضد النظام العربي، وأعلن مراتٍ عديدة تصميمه على إزالته من الوجود.

بدأ انهيار النظام العربي في يونيو/ حزيران من عام 1967، عندما احتلت إسرائيل أراضي أربع دول عربية، مصر وسورية والأردن وفلسطين، ونجحت في إفراغ العالم العربي من أي قطب مركزيٍّ يمكن أن يتمحور حوله، ودفع قيادتي مصر وسورية إلى تبديل علاقاتها بصورة جذرية مع تل أبيب وواشنطن، صاحبتا مخطط ضرب القوة العربية، وأي جهةٍ لديها من القدرات الذاتية ما يتيح لها الإمساك بمنطقتها: قلب العالم الاستراتيجي الذي بقي احتلاله مطمح القوى الإمبراطورية على مر التاريخ .

واليوم، يتظاهر انهيار النظام العربي، عبر تدمير ركني المشرق العربي، العراق وسورية، الذي بدأ باحتلال بغداد عام 2003، واكتمل خلال الأعوام الخمسة الماضية بقوة قرار اتّخذه نظام الأسد بتدمير سورية، لاعتقاده أن تحقيق هذه الأمنية الإسرائيلية سيحميه أميركياً من السقوط. لا عجب أن نتائج الانهيار كانت كارثيةً على الوجود السياسي والأمني العربي عموماً، ولا غرابة في انتقال مخاطره إلى بلدان الخليج من البوابة اليمنية، حيث تنخرط إيران في صراعٍ تريده مصيرياً بالنسبة لدوله التي تجد نفسها، منذ نيّفٍ وعام، أمام تدخلٍ عسكري محكم، يتخطى أمنها إلى وجودها، لا يترك لها من خيارٍ غير تنظيم ردٍّ من طبيعة استراتيجية على ما يتعرّض له العرب من عدوان الملالي، أو القبول بما يفعله هؤلاء ضد مشرقٍ، لم يكن يوماً مكاناً برّانياً بالنسبة لوجودها وأمنها، وضد اليمن أيضاً: الدولة التي تستخدم لاختراق الخليج واستنزاف قدراته، وتوازي أحداثها، في أهميتها، أهمية أية أحداث محض داخلية، تجري في دولها، المهدّدة بمخططٍ بعيد المدى، بدأ بإغراق مصر في هاويةٍ، يبدو أنها لن تخرج قريباً منها، وها هو يدمر المشرق في أيامنا، ويعمل لاجتياح بقية الجسد العربي، بتصعيد معركة اليمن، وإعطائها طابعاً خليجياً عاماً، تبدو الآن علاماته جليةً في كل موقعٍ منه.

هل يستطيع العرب مواجهة تحدّياتٍ مصيرية، ينتجها انهيار نظامٍ غدت استعادته مساويةً لقدرتهم على الحياة والفعل؟. يقول صمود الشعب السوري الأسطوري، طوال نيّفٍ وخمسة أعوام أنهم يستطيعون، وتقول “عاصفة الحزم” إنهم قادرون، وتقول الضرورة التاريخية إن السبيل الوحيد إلى خروجهم من مأزقهم المصيري الحالي الذي يدفعون، حكاماً ومحكومين، ثمناً فادحاً لتقصيرهم في مواجهته، أو لإحجامهم عنها، يكمن في خيارٍ تتكامل بفضله قرارات قيادة مقتدرة، تعي مخاطر غياب نظام أمن عربي جامع، وتضحيات المجتمعات العربية التي تؤكد، عبر تجربتها السورية، أهليتها للدفاع عن نفسها وقدرتها على مقارعة أعدائها وقهر خصومها، وإقامة الحاضنة الضرورية للانتصار على الضعف والخوف والحسابات الصغيرة.

إلى متى سنفتقر إلى تكامل استراتيجي كهذا، يستطيع وحده بناء نظام عربي جديدٍ، يواجه الأخطار والتحديات، ويخشى أعداؤه مواجهته؟

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات