امتدّت دراسة الظواهر الدينية، وما صاحبها من جماعاتٍ وعنفٍ وصراعٍ وسلوكٍ وثقافة جديدة في حياة الدول والمجتمعات والأفراد، من علوم الدين إلى السياسة والاجتماع، وبدأت دراسة الظواهر ومحاولة فهمها تمتد إلى علم النفس والبيولوجيا وطب الأعصاب،.. بالنظر إلى اتجاهات العنف والكراهية والتسامح والخضوع والاكتئاب والتمرد والاحتجاج والعزلة والمشاركة والانقياد والمغامرة والنزعة إلى الانتحار والقتل والإدمان والسادية (الاستمتاع بالإيذاء) والماسوشية (الاستمتاع بتلقي الإيذاء) أو أمراضٍ واضطراباتٍ نفسيةٍ وعقليةٍ وسلوكيةٍ، مثل الانفصام والنرجسية والعدوانية والقلق والتوهم، يمكن أن تتفاعل مع السلوك الديني، أو تأخذ تمظهراتٍ دينية، أو أن يكون الدافع الى السلوك الديني نفسياً أو بيولوجياً،… ويمكن، على سبيل المثال، الإشارة إلى كتاب “بيولوجيا السلوك الديني: الجذور التطورية للإيمان والدين”، تحرير جيه. آر. فيرمان، وكتاب “القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري”، تأليف كاثلين تايلور، أستاذة طب الأعصاب وعلم الدواء في جامعة أكسفورد.
وهكذا، فنحن اليوم في وسط تفسيراتٍ سيكولوجيةٍ وبيولوجيةٍ بعد التفسيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية، والتي لم تساعدنا في فهم الظواهر والأزمات، ليس لأنها علوم ودراسات قاصرة (ربما تكون قاصرةً بالفعل). ولكن، لأن ما يسمى مواجهة التطرف والإرهاب هو، في الحقيقة، مواجهة المتطرّفين مع المحافظة، وبإصرارٍ على إنتاج التطرف، وبوعي مقصود. ولذلك، لن تفيدنا علوم الطب والنفس، طالما أن الأنظمة السياسية العربية لن تستجيب للدراسات والأفكار إلا إذا كانت إجراءاتٍ أمنيةً وسياسيةً، تزيد القيود على حريات الناس وخياراتهم، بلا استثناء بالطبع، وأن يجبر الناس على “الاعتدال”، مثل ما يجري إجبارهم في التعليم والإعلام ودور العبادة، أو بمنعهم من التفكير والنقد .. صحيح أن الأنظمة السياسية تريد للمواطنين أن يكونوا معتدلين، أو على الأقل، ألا ينضموا إلى الجماعات العنفية والمتطرفة، لكنها تريد ذلك من غير تغيير في سياساتها، أو بدون الاهتمام بالدراسات العلمية التي تحاول فهم الظواهر وتحليلها، إذ يكفي، في نظرها، أن تقول للناس لا تتطرفوا، أو أن يقول المفتي العام إن التطرّف حرام!
“نحن عموماً نفضل ما يماثلنا، خصوصاً أن المعتقدات تصبح مكوناتٍ من هويتنا. وفي ذلك، فإنها تميّزنا، وتنشئ موقفاً من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا، فيصبح ليس منا، أو مختلفاً عنا، أو عدواً أو مثيراً للاشمئزاز، ثم نطوّر موقفنا منه (الآخر)”
تقول الإحصاءات الرسمية في الأردن إن 114 شخصاً انتحروا في عام 2015. وبالطبع، هناك حالات وفاة أخرى كثيرة لم تسجل انتحاراً، وهناك أيضا جرائم قتل كثيرة من النوع الذي ليس قائماً على دوافع جرمية، مثل السطو، لكنها تعود إلى أزماتٍ نفسيةٍ أو عائليةٍ، أو بغرض الانتقام والثأر، أو في شجارٍ يبدأ بسيطاً، ثم يتطوّر إلى جريمة قتل. و قد قتل رجل، الأسبوع الماضي، زوجته وابنه وبنته، ومازال المجتمع يعيش صدمة امرأة قتلت أطفالها، ثم شنقت نفسها! .. وهناك حالات محاولات انتحار لا تتم تزيد على عشرة أضعاف عمليات الانتحار التي تمت بـ “نجاح” .. أليس طبيعياً القول إن هؤلاء المئات الذين أقدموا على الانتحار، أو القتل، أنهم مستعدون أو كانوا قابلين للمشاركة في عمليات انتحارية، أو إرهابية، ضد دولهم ومجتمعاتهم؟ مؤكّد، بطبيعة الحال، أن الذين يعيشون حالاتٍ من الاكتئاب، والنزعة الى الانتحار والتهميش والعزلة والشعور بالظلم، مرشحون تلقائياً ليكونوا متطرفين قساة، فالذي يقسو على نفسه، أو المقرّبين إليه، سيكون أكثر استعداداً للقسوة على الآخرين.
تقول أستاذة طب الأعصاب وعلوم الدواء، كاثلين تايلور، إن القسوة، وهذا يشمل بطبيعة الحال العنف والتطرّف والكراهية، في حالتها الانتقائية تعكس الفشل، لكنها، في حالتها الشاملة، مرض عقلي. ولكن، حين يمتلك هذا المرض العقلي تأييداً اجتماعياً كاسحاً، كما يحدث كثيراً في القوميات والأيديولوجيات، فإن الوباء يتحول إلى أصلٍ أو سلوكٍ سائد يصعب الخروج عليه، وربما يكون قريباً من ذلك ما يحدث اليوم في موجة التعصب الديني التي تحوّلت إلى كراهيةٍ شاملةٍ لفئاتٍ ومذاهب وطوائف، وأنشأت عنفاً شاملاً ومجازر وتهجير بلا رحمة أو تعاطف، كما يحدث في سورية والعراق، وكما حدث من قبل في رواندا وبوروندي والبلقان وألمانيا النازية.
ليس بناء المعتقدات قائماً على عمليات علميةٍ عقلانية، فالعلم والعقل لا ينشأان أيديولوجياً، لكنها أفكار تكتسب صلابةً وإيماناً عميقاً، بسبب اتجاهاتنا وميولنا التي نملكها بالفعل، إنها (المعتقدات) مثلنا، ونحن عموماً نفضل ما يماثلنا، خصوصاً أن المعتقدات تصبح مكوناتٍ من هويتنا. وفي ذلك، فإنها تميّزنا، وتنشئ موقفاً من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا، فيصبح ليس منا، أو مختلفاً عنا، أو عدواً أو مثيراً للاشمئزاز، ثم نطوّر موقفنا منه (الآخر)، أو اعتقادنا عنه بأنه يريد إيذاءنا، ومن ثم يجب إزاحته أو إقصاؤه أو اخفاؤه من الوجود، .. فتبدو عمليات الإقصاء والإبادة كأنها دفاع ضروري عن الذات، أو هي تعكس الخوف الوهمي على وجود الذات ومصيرها.