كعادتهم، وعلى نحو ما تفعل الفئران، يخرج الإرهابيون علينا من جحورهم، وبجبنهم الذي صرنا نميزهم به وحده؛ فيقترفون جريمة هنا أو هناك، ثم يفرّون، لكن إلى حين فقط. هجماتهم الدنيئة متوقعة، لأن الحرب على الإرهاب طويلة ومتشعبة، وقد قرر الأردن أن يخوضها منذ اليوم الأول ببسالة وشجاعة، وإصرار على تحقيق النصر. ولعل وقت إعلان هذه الحرب تأخر بعض الشيء، لكنها حرب حتمية بديلها انتظار تفشي الإرهاب بيننا.
وكما هي العادة أيضاً، فلا مفاجأة أبداً؛ جاء رد الفعل الشعبي موحدا وطنياً بامتياز. إذ التقى الأردنيون خلف إيمانهم الصادق العميق ببلدهم وأمنهم واستقرارهم، ورفضهم التام وإدانتهم للتطرف بكل أشكاله.
لا بد من العودة إلى التأكيد مرة أخرى وأخرى، أن المواجهة مع الفكر المتطرف طويلة، والمعالجة تحتاج عملاً مضنياً متشعباً ومديداً. فعديمو العقول والضمير بيننا للأسف؛ يقاسموننا خيرات الوطن كلها، لكنهم بحكم فكرهم الإرهابي الظلامي، عقب غسل عقولهم، ما عادوا يبالون بشيء سوى تعطشهم لسفك الدماء وإزهاق الأرواح البريئة.
في الاعتداء الدنيء على مكتب مخابرات البقعة، أمس، في أول أيام شهر الرحمة، والذي أفضى إلى استشهاد خمسة من رجالات الدائرة، توهم الإرهابيون أنهم بجريمتهم هذه سيزفون للجنة! أو أنهم تمكنوا من الأردن! لكنهم يجهلون أن الأردن منيع قوي موحد في وجه كل شرورهم.
فنحن إذ لا نملك إلا تقبّل استشهاد خمسة من حماة الأردن، قدموا حياتهم دفاعا عن وطنهم المستهدف نتيجة مواقفه الرافضة للإرهاب والخراب، والمؤكدة على التنوير والبناء، لا يزيدنا هذا الثمن الغالي إذ هو أرواح أردنيين، إلا ثباتاً في حربنا، وتصميماً على حصار وباء الإرهاب واجتثاثه أينما وجد.
الأردن سيبقى بقيادته وفرسان حقه وجيشه صامدا عصيا على أي مجرم. وما صدمة الأردنيين وثورتهم على إجرام الإرهابيين، إلا دليل على أن هؤلاء خلايا سرطانية نائمة مختبئة، لا تجرؤ إلا على الخسيس من الأعمال.
ولعل الإرهابيين ظنوا أن مكان وخصوصية هدف جريمتهم الأخيرة يقسمان الناس، ويشتتانهم عن الغاية الأردنية الأسمى، وهي أمن وسلامة الأردن، والتي هي من أمن وسلامة الأردنيين جميعاً ووحدتهم. والتجربة في كل هجوم إرهابي تؤكد أن القتلة مخطئون؛ فكلنا أردنيون في مواجهة الإرهاب.
نعلم أن شهداء أمس الخمسة قد لا يكونون آخر الشهداء؛ إذ ندرك جيدا أن تقديم التضحيات مستمر. لكننا نعلم أيضا أن الأردن أوجع الإرهابيين أكثر من مرة وقضّ مضاجعهم، وأضعفهم حيثما سيطروا؛ من سورية والعراق، إلى أفريقيا وأوروبا.
ما حدث في البقعة، وقبله في إربد، وسبقهما الموقر، مسألة نتوقعها في أي لحظة، سواء في مواقع عسكرية أو مدنية، لأنه طالما هؤلاء الانتحاريون بيننا بلا عقل، وبأساليب لا تعدّ أبداً اختراقات أمنية، فإن من الممكن تكرار ذلك. لكنهم يدركون أيضا أن لا مكان لهم في مجتمعنا، لذا تجد عملياتهم فردية.
هنا تبدأ معركتنا الحقيقية بمحاصرة هذا الفكر داخليا. فالحدود محمية بيقظة قوات الجيش والأجهزة الأمنية، وكذلك المتابعة الأمنية للأحوال الداخلية، ما يجعل التحدي الحقيقي الداخلي فكريا وليس أمنيا.
فهذا الفيروس يفتك بشبابنا ومجتمعنا، وما يزال ممكنا له، رغم كل ما يقال، اختراق المجتمع وتجنيد الشباب وغسل عقولهم. فالعدد اليوم بالآلاف ربما، وعلينا الاعتراف أننا في الوقت الذي أبلينا أحسن البلاء في المعركة العسكرية والأمنية على الحدود وخارجها، فإن أساليب المعالجات الداخلية ما تزال عقيمة فاشلة، وثمة ممانعة في خوض المعركة الفكرية.
حتى اليوم ورغم إدراك مخاطر هذا الفكر، عجزت المؤسسات عن تقديم خطاب محلي تنويري قادر على تجفيف ومحاصرة هذا الفكر المسخ الذي أنتجته مؤسسات مدنية ورسمية، وما تزال المناهج المدرسية قاصرة.
المعالجات المعلنة منذ عهد الحكومة السابقة وتحديدا على جبهة المعركة الفكرية، ما تزال قاصرة، بل وفي إطارها النظري؛ فلم تتغلغل في عقل المؤسسات. أي، وللأسف، نحن لم نبدأ بعد معركتنا الداخلية.