تُفاجئنا بين فترة وأخرى، فتوى من عالم جليل أو داعية محل ثقة موقر، فتواه كانت متوافقة مع أحكام شرعية أُخذ بها قياساً لسنوات طويلة، فرآها هو بعد إعادة البحث فيها بمنظور مختلف يناسب طبيعة الزمان والمكان المتغيرة، والفكر الذي يجب أن يصبح مرناً لتقبل تطورات الوقت، ومتغيرات جغرافية المكان الذي جعل الله الإسلام خاتم الأديان ليصبح صالحاً لهما أبد الدهر، فيفتي بما يخالف الفتوى السائدة، فتنقلب الدائرة عليه، وما بين ليلة فتوى وضحاها، يبدل المجتمع نظرة التقدير له من حال إلى حال، على رغم أن الاختلاف في الفتوى بما لم ينزل به نص صريح في القرآن أو الأحاديث الصحيحة، رحمة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. فأين الخلل؟ ولماذا أصبح الاختلاف في الاجتهادات الشخصية بناء على البحث باب تعسير واسعاً لا تيسير فيه، يدخل منه التناحر والتصادم والبغضاء من باب تباين الفتاوى؟
إسلامنا سمح، مرن، عظيم، هو دين الأجيال المتعاقبة الذي لا يضل من اتبع هداه، الحياة به سهلة جداً، لكننا نحن للأسف من نجعل كل شيء بها يضيق بنا، فنقلب يسرها إلى عسر بسماحنا للبعض بأن يملي علينا تحجر فكره البشري الذي لم يخلقه الله معصوماً عن الخطأ مهما بلغت به ومنه درجة العلم والتدين، فيأخذنا معه في دوامة ضيق أفقه الذي قد يغلق علينا منافذ الخروج إلى عوالم من تساهيل تجعلنا نسعد بالحياة وتسعد بنا، بدلاً أن نضيق بها وتضيق بنا!
ولأن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا بفطرة سليمة، فكلنا نبحث عن التزام يضمن لنا السلامة في إتباع أقصر الطرق الموصلة إلى رضا الله، من دون الوقوع في حفر الذنوب الخطرة أو الاصطدام بحواجز المعاصي المميتة، نسير فيها على أمل الوصول لخلود في جنات نعيم نعيش في الحياة على أمل الفوز بها.
خالق الكون أعرف من خلقه بطبيعة البشر الخطاءة، لذلك جعل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه مهما تراكم الذنب وبلغ حجم المعصية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم).
ييسر رب الرحمة لنا الحياة، فيأتي بعض خلقه ليعسروها علينا، حتى أصبحت حياتنا ممتلئة بالمحرمات التي اعتادت على كثير من المباحات، التي هي في كل المجتمعات الإسلامية فيها أقوال إلا في مجتمعنا أصبحت من كبائر الذنوب المهلكات!
للأسف، تركنا البحث في مسائل تحتاج إلى جهود علماء الأمة لمواجهة خطر إرهابية الفكر وعنف الإسلام الذي يحاول أعداؤه إلصاقه به، وتفرغنا لمسائل هي أصلاً موضع اختلاف فتوى لا تفسد لصحة العقيدة قضية، كتغطية الوجه وشكل العباءة ولونها والموسيقى والغناء والصور والتصوير والرسم والرسامين وفي السفر إلى الخارج والابتعاث، وغير ذلك مما تطول به القائمة، وهم يكثرون من اللاءات والحرام والمنع والوعد والوعيد الذي أشغل العلماء بالخشية من الفساد الغرائزي الذي عملقه خوف البعض منه، حتى أصبح مترسخاً في أذهان من أُجبر على البعد عنها بالقوة والتعسير، لا بالإيمان والتيسير.
وما إن يخرج شيخ مجدد ليقول رأياً مختلفاً حتى تتطاول الألسن وتتقاذفه التهم، إلى أن يجبره البعض على الرجوع عن رأيه تجنباً للفتنة!
الأصل في الحياة الإباحة إلا في ما تعدى على قدسية الله -عز وجل-، والإباحة تجعل من الحياة جنة الدنيا للمؤمن التي تصل به إلى جنات الخلود في الآخرة، فلماذا أصبحنا بلا حياة، وبتشددنا وغلظتنا نقتل كل فرح فيها؟
كل أمر فيه امرأة هو فتنة وفساد.. كل ترفيه يستوعب جموح طاقات الشباب يحرم خوفاً من عبثهم.. أي نقد أو مخالفة لرأي عالم يعتبر سماً مهلكاً يُحذر من تجرعه كل من عارض الالتزام بالقول إتباعا لا طوعاً..
خطبنا أصبحت بلا واقع، وأصبحنا نخاف، فنعيش حيوات داخل حياة، ونحن نلبس أقنعة الازدواجية التي ترضي المجتمع، ونخلعها عندما نستتر عن أعين الناس، على رغم أن الله مطلع عليم هنا وهناك!
وللأسف حوارنا الوطني فشل في خلق مساحات تستوعب معظم الآراء، فتقربنا وتجمعنا على قوة الإيمان وحسن الخلق والتأدب عند الخلاف والسلام الذي نادى به الإسلام، لذلك ما زلنا للأسف نعاني من تبعيات ذلك.
قد يكون جيلنا تحمل تبعيات تلك الآراء وزمن تلك الصحوة ورضخ لها، إيماناً منه بآراء ذوي النخبة، ولكن الجيل الحالي ليس كجيلنا نحن، فهو رافض متمرد على ما لا يصل إلى عمق فهمه، لذا لا بد من تغيير لغة الخطاب والحوار معه، ولا بد من تغيير طريقة زراعة الإيمان بنفسه حباً لا تخويفاً من الله.
كلنا أمل بأن تكون “رؤية ٢٠٣٠” قادرة على ضبط دائرة الفتوى، ليكون التحليل والتحريم مدروساً بشكل أعمق، بحيث تصدر الفتوى بإجماع يجنب المتلقي العادي التذبذب بين اختلاف العلماء، ويمنح المجتمع ما يحتاجه من دون إفراط ولا تفريط.