سعاد ثابت عبدالله زوجة دانيال عطية عبده، امرأة قبطية في السبعين، تمت تعريتها بالقوة في قريتها الكرم بمركز ابو قرقاص في محافظة المنيا، في صعيد مصر المحروسة. رأيت شريط الفيديو الذي صوّر المكالمة الهاتفية التي أجراها معها البابا تواضوروس، بطريرك الكنيسة القبطية، هو يتضرع إلى السيدة مريم العذراء كي تغطيها وتسترها، وهي تدعو له بطول العمر.
صارت سعاد معروفة باسم سيدة المنيا، ابنها أشرف هرب من القرية قبل ثلاثة أيام من الحادثة بسبب اتهامه بإقامة علاقة مع امرأة مسلمة مطلّقة، وكانت هذه التهمة سبب تعرية المرأة في الشارع وإحراق سبعة من بيوت الأقباط في القرية ونهبها.
روت سعاد ما جرى لها فقالت: «قاموا بإخراجي من منزلي ثم جرّدوني من ملابسي، وجرّوني فى الشارع، واعتدوا عليّ بالضرب بطريقة وحشية، وطرحوني أرضاَ، فاختبأت تحت إحدى العربات لستر نفسي، فقامت سيدة بوضع ثياب فوقي لتغطيتي».
وأضافت: «ارتديت الملابس وتمكنت من الهروب منهم، وأخذت وسيلة مواصلات للانتقال للمدينة، وحاولت إني ما أتكلمش مع حد في الموضوع زي ناس كتير بيحصل معاهم كده وبيتعرضوا للاغتصاب أو التحرش، ولكني لم أحتمل الصمت لشعوري بالقهر والذل أكثر من 3 أيام، وبعدها قررت أروح المركز وأدلي بأقوالي».
المعتدون جبناء وسفهاء. كل الشتائم ممكنة بل ضرورية، فأمام النذالة تحضر الشتيمة التي تعبّر عن الغيظ والشعور بالمهانة، لكنك تكتشف أن كل وعاء الاستعارات التي صنعها قاموس الشتائم لا تكفي كي تبرّد الغضب.
كيف نعيد إلى سعاد كرامتها؟ وهل يستطيع أحد أن يتكلم عن كرامته حين تُطرح السيدة سعاد أرضاً وهي عارية، وتُضرب ويُنكّل بها؟
قد يُقال ان جريمة الكرم تندرج في سياق الأحداث الطائفية التي تضرب مصر والمشرق العربي، وان اضطهاد الأقليات الدينية و«استوطاء» حيطها صار من شيم الزمن الداعشي الأصولي الذي يجتاح بلادنا، وان التستر المديد على الاستقواء على الأقليات وتهميشها وحجب المشكلة بحجج وطنية وقومية أوصلنا إلى هذه الهاوية. وهذا صحيح رغم أنه لا يفسر الأبعاد المتعددة للمسألة. يكفي أن نعود إلى رواية الكاتب المصري الكبير عبد الحكيم قاسم «المهدي»، لنكتشف آفة الاستبداد الديني والتسلط على الأقليات. وللأسف فإن هذه الرواية التي تشكل وثيقة ادبية نادرة، ليست في التداول النقدي، وهي شبه مغيّبة عن ذاكرتنا الأدبية.
فقراء ينتقمون من فقراء، ومهانون يهينون مهانين، والمبرر هو قراءة الدين بصفته سلطة على الحياة والموت. شعور غامض بالثأر من النفس عبر تحطيم مرآتها التي تتجسد في الآخر الشبيه/ المختلف، وآلة تخريب للأوطان وتدمير للحاضر باسم الماضي.
غير أن المسألة لا يمكن فهمها في هذا الاطار وحده، فالجنون الطائفي هو جزء من نظام الاستبداد. فالديكتاتورية قامت بسحق المجتمع الأهلي، وأغرقت البلاد في الفقر، واهدرت الثروة الوطنية، وسلمت البلاد للصوص والسماسرة والمقاولين والتجار، كما أفرغت المعنى من المعنى، فصار الدين هو الملجأ الوحيد من الظلم بالظلم، وصار الجنون الطائفي جزءًا من وهم السلطة التي استباحت كل شيء ولم تترك للناس سوى الوهن.
حكاية سعاد تلخص حكاية مصر والمشرق العربي مع الاستبداد والمستبدين. ولهذه الحكاية اسم واحد هو العار. لاحظوا معي الجناس اللغوي الذي يعيد كلمات العار والعري والعورة إلى عائلة لغوية واحدة. والمسألة ليست لغوية فقط بل سياسية أيضاً، فالسيدة سعاد لم تكن أول من أجبر على التعري، فممارسة العَوَر جزء من المصطلح الاستبدادي، من أبو غريب حيث لم تكتف الجندية الأمريكية وأصحابها بتعرية الرجال بل قامت بتصويرهم، وانتشرت الصور في كل مكان، إلى السجون الاسرائيلية ونقاط التفتيش في المعابر ومطار اللد حيث تجري تعرية الفلسطينيات في الكثير من الاحيان، إلى جثث السجناء العارية في سجون البعث الأسدي، إلى استرقاق النساء ورجمهن في دولة خلافة البغدادي وولايات جبهة النصرة، إلى اغتصاب السجناء والسجينات، إلى آخر ما لا آخر له…
هل تذكرون تعرية الفتيات في ميدان التحرير وفحص البكارة في اقسام الشرطة، وهل ننسى الصور التي تسربت من المعتقلات السورية للأجساد العارية التي تضرب وتمتهن وتمرغ بالتراب ويطلب منها السجود لصورة الاسد الصغير والبصق على حريتها؟
يبدأ الاستبداد بالجسد كي يجوّف الروح. هذا الامتهان للأجساد يصل إلى أقصاه في جسد المرأة الذي يصير عورة يجب أن تُحجب. حجب الجسد الانثوي ليس حكراً على الاسلام، مشكلتنا مع زمن الجهالة هذا، هي عدم المعرفة، فجسد المرأة سواء أكانت مسلمة أو مسيحية وشعرها يجب ان يحجبا، أما السفور فهو ظاهرة حديثة ليست مرتبطة بالاستعمار مثلما يظن الجهلاء، بل حصلت في النضال الاستقلالي ضد المستعمر، وفي الصراع من أجل الحرية والديموقراطية، هنا في لبنان وهناك في مصر.
الجسد الأنثوي الذي تحول إلى سلعة أو عورة، هو في الحالتين أرض للاستباحة السلطوية الذكورية، وهو يكشف مشكلات المجتمع مع قيمه، خصوصاً عندما يصل مجتمع ما إلى الحضيض الاستبدادي.
صار الجسد خريطة سياسية يمارس عليها الاستبداد السياسي و/أو الديني و/أو الاجتماعي سلطته المطلقة، معلناً انهيار القيم الأخلاقية واستبدالها بشعوذة سياسية يجسدها الضابط او الخليفة او الداعية.
دانيال، زوج سعاد، رفض تعويضاً قدره خمسة آلاف جنيه، أرسله محافظ المنيا، وكتب إلى المحافظ: «شكراً جزيلاً على مشاعركم الطيبة، لدينا ما يكفينا»، معلناً اصراره على رفض الصلح العرفي قبل أن تأخذ العدالة مجراها. ولكن أين نجد العدالة في بلاد يستباح فيها الانسان كل يوم؟
أغلب الظن أن سعاد لن تقرأ هذه الكلمات. فما معنى الكلمات أمام ألمها، وهل تستطيع كلماتنا أن تقرأ عينيها المليئتين بالأسى، وان تمسح عن أهدابها غبار المهانة؟
قالت سعاد إنهـــا سامحــــتهم: «أنا مسامحــــاهم واللـــه يسامحهــــم». وأنا أصـــدّقها، لكنني عاجز عن مسامحة نفسي.