لا يمكن حتى اليوم فهم الأزمات واقتراح الحلول إلا من خلال تقييم النخب واختيارها. فالإصلاح والتنافس ليسا إلا اختيار النخب، وما يمكن التفكير فيه والعمل لأجله هو عدالة التنافس على النخب وأن تكون هذه العملية العادلة قادرة على تجديدها بإبعاد الفاشل واختيار الأفضل. هذا هو جوهر الانتخابات، فهي ليست سوى مراجعة واختيار للنخب! وتتعطل اللعبة عندما تكون قواعدها غير عادلة أو لا تعمل ابتداء، وعندما تكون الخيارات المتاحة حتى في عدالة وفاعلية اللعبة لا تأتي بقادة قادرين على الإصلاح.
والحال أن النـــخب القــــــــائمة والمرشحة لقيادة العمل السياسي والعام وقيادة الأسواق لا تعكس أملاً بإصلاح. وبذلك فخيارات المواطنين معدومة أو ضئيلة. فكيف تتشكل أمام الناخبين خيارات حقيقية ومتعددة؟ يفترض أن البيروقراط يقدم فلسفة ورؤية للمؤسسات وتنظيمها وإدارتها وفي ذلك تتشكل قيادات اجتماعية قادمة من العمل الرسمي يعرفها المواطنون ويعرفون خياراتهم عند انتخابها في إصلاح الموارد العامة وإدارتها وتنظيمها. وفي ذلك تتشكل التيارات المؤمنة بالدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة من المحافظين والوطنيين واليساريين والتي تعكس ثقافة المؤسسات العامة وإداراتها وتأثيرها. هل يملك المواطنون معرفة وخيارات عملية يرجحون فيها بين القيادات الاجتماعية القادمة من القطاع العام؟ هل يملك القادمون من العمل العام من الوزراء والمدراء والموظفين فرصة للنجاح الانتخابي بناء على رؤيتهم وتجربتهم في العمل العام؟
ويــفـــترض أن تـــقدم الأسواق والمصالح والأعمال التجارية والمهن تيارات وقيادات اجتماعية وسياسية تنشئ حول الازدهار برامج وأفكار قائمة على الإيمان بالإبداع والحريات والفردية والقوة اللامحدودة للتعليم والمهارات والأخلاق العـــقـــلانية لتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الفقر والبؤس الاقتصادي، وفي ذلك تتشكل التيارات الليبرالية واليسارية أيضاً مستمدة وجودها وتأثيرها من الجماعات الاقتصادية والنقابات والمغامرين والمبادرين والمتمردين على الأوضاع القائمة والمتطلعين إلى حياة أفضل.
وتتشكل في المجتمعات والمدن قيادات اجتماعية من العاملين والناشطين في البلديات وحماية المستهلك والثقافة والفنون والرياضة وجماعات التأثير على السياسات والتشريعات والمؤسسات والخدمات والأعمال التــطوعيـــة والمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص وتطوير مؤسسات ومرافق المجتمع ومواجهة الاحتكار؛ تنتمي إلى التيارات والأفكار نفسها التي تتنافس وتتشكل في المصالح والأســـواق والمؤسسات العامة.
ما الذي يحدث عندما تتعطل ديناميات تشكيل النخب وتدويرها؟ وعندما تعجز التيارات والجماعات عن تقديم أفكارها ومرشحيها على النحو الذي يعكس الإيمان بهذه الافكار؟ تنفصل النخب عن رسالتها وفكرتها وتتكون منها جماعات جديدة غير معروفة؛ بل هي لا تعرف نفسها. يساريون منفصلون عن الماركسية وهمّ العدالة الاجتماعية، يبحثون عن تحالفات وأدوار جديدة، مثل مجاميع العمالة السائبة التي تنتظر على الأرصفة من يشغلها، وليبراليون بلا ليبرالية، يبحثون عن أية فرصة وبأية وسيلة في حمى الخصخصة والمعونات الدولية، ومقاومتيون وقوميون لا يعترفون ولا يريدون أن يروا كل ما حدث منذ الحرب العالمية الأولى، ونخب أوليغارشية تمعن في النهب كما لو أنها تلعب في الوقت الضائع، أو هي جماعات ونخب ليست سوى مصالح جديدة مستقلة عن مصالح المجتمعات والقواعد الاجتماعية والمصالح الاقتصادية المفترض أن تعبر عنها، وتنشئ تحالفات جديدة مختلفة عن التحالفات المنشأة لها، وفي ذلك تتحول إلى كائنات طُفَيْلِيّة تلحق ضرراً بالغاً بالمجتمعات والأسواق ويرتبط مستقبلها واستمرارها بضعف وتهميش المجتمعات وفي عجزها عن الاستقلال وإنشاء حراك اجتماعي اقتصادي حقيقي ينتج قياداته ونخبه المعبرة عنه، وتكون عملياً مصالح هذه النخب المغلقة والمهيمنة هي ضعف المجتمعات وهشاشتها وتدمير المؤسسات التـــعليمية والصحية والتنموية، وتحويل المجتمعات إلى مجاميع تابعة وتائهة. لكن في نهاية المطاف لا يعود مجال في الصراع والتنافس سوى إقصاء النخب و/أو تدمير المؤسسات والأسواق والمدن.