كان انتخاب صادق خان ،الناشط في حزب العمال البريطاني، رئيساً لبلدية لندن التي تضم أكثر من (12) مليون نسمة ،حدثاً هاماً للكثيرين في دول العالم . فهذا الرجل البسيط الذي لا تدعمه قبيلة أو طائفة و لا ثروة ولا جاه، ولا دولة أجنبية ،ينحدر من أصول باكستانية متواضعة وديانته الاسلام. ومع هذا فإن اقبال الناخبين لاعطائه اصواتهم كان كبيراً. والسؤال لماذا ؟
لماذا يصوت البريطاني ،الذي كان يستعمر الهند والباكستان ونصف العالم قبل (80) عاماً، لماذا يعطي صوته لصادق خان ليتبوأ منصبا بالغ الأهمية المعنوية والعملية ؟ ولماذا لايعطيه ل جون أوسميث ابناء منطقته و ديانته و أصحاب البلد الأصلاء ؟ المسألة غاية في البساطة وهي أولاً: ان المنصب العام هناك ليس بمغنم ولا فرصة للتربح والتكسب و التمنفع وجمع الأموال والأبهة. انه خدمة المجتمع. وقد غادر العمدة السابق لصادق خان مكتبه إلى منزله على دراجة هوائية. وثانياً: أن التربية والثقافة و الممارسة التي ينشأ عليها الإنسان منذ الطفولة ،في البلاد الديمقراطية المؤسسية ،تقوم على أساس الوطنية، والتي تعني ليس مجرد التغني بالوطن وبسهوله وجباله وحبات الرمل فيه، وإنما تعني العمل المخلص من أجل مصلحة الوطن، وتعني اختيار الأفضل، والتصويت لمن لديه القدرة على خدمة الوطن ليصل إلى المواقع العامة، وليس التصويت للقريب او الحسيب او النسيب أو الشريك. فالتربية والممارسة هناك كما في غيرها من الدول الديمقراطية، تضع “الوطن فوق الجميع لأنه للجميع” بدون تخوف وبدون تشكك . الوطن فوق الفرد وفوق الحزب وفوق المعتقد الذي هو حق شخصي لا ينازع فيه أحد. ثالثاً: أن الركن الثاني في التربية والثقافة والممارسة هي المواطنة . فالدول كبيرة كانت أو صغيرة ،غنية أو فقيرة، لا تقوى ولا تتماسك ولا تتقدم الا بالمواطنة. حين يشعر الجميع انهم متساوون أمام الوطن والقانون ،لكل منهم ذات الحقوق والواجبات. وأمام الوطنية والمواطنة والديمقراطية والممارسة الصادقة تتراجع الانقسامات العائلية والقبلية والطبقية والعرقية والطائفية والدينية والجهوية وغيرها. رابعا: أن الأحزاب و منظمات المجتمع المدني المفتوحة للجميع هي البوتقة الوطنية الجامعة التي تصهر مكونات المجتمع إلى معدن متماسك صلب . و لذا لم يهبط صادق خان بمظلة السلطة أو الطائفة على موقع عمدة لندن ، و إنما عمل لسنوات وسنوات في صفوف حزب العمال ليصل خطوة خطوة .كان صادق خان طبيعياً وشجاعاً حين بدأ خطابه بعد الفوز “ بالبسملة”. فلم يكن بحاجة لأن يخفي معتقده ولا مشاعره ولم يشعر بالخوف من أن ينتقده سامعوه. ذلك أنهم لا ينظرون الى عقيدته ودينه وانما ينظرون الى ما سوف يقوم به من خدمة للمدينة العظيمة الأولى أو الثانية في العالم .و قد أعلن صراحة أنه لا يمثل الإسلام و لا المسلمين،و إنما يمثل المواطنين أيا كانوا.
وقبل صادق خان كانت خديجة بنت غريب الجزائرية التي فازت برئاسة البرلمان الهولندي وقبل (8) سنوات كان انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة التي كان السود فيها يعانون التمييز العنصري .
وبالمقابل فالمنطقة العربية تمثل النقيض المتضاد والمتخلف تماماً: فلا ديمقراطية ولا وطنية ولا مواطنة، ولا أحزاب ولا منظمات مجتمع مدني تشارك في إدارة الدولة و تتداول الحكم فيها، ولا تربية و ثقافة و إعلام و فكر تدفع باتجاه التوحد ةالتكافؤ واللإنصهار في بوتقة الوطن. فالحاكم مستبد مستأثر اقصائي إلى ابعد الحدود. والقوى السياسية بدلا من أن تتنافس بشرف و وطنية ،تتآمر على بعضها و على بلدانها ،وتدعو الغزاة لكي يدمروها، كما وقع في سوريا واليمن وقبلهما العراق. والمواطن تائه بين الولاء لبلده وشعبه ،وبين الولاء للحزب والطائفة والقبيلة والمذهب الذي غذته الثقافة والتربية ،بطرق غير مباشرة بتفضيلهما على الوطن والمصلحة الوطنية. ان التنوعات العرقية والقومية والدينية والطائفية في المنطقة العربية هي فيها منذ مئات بل وآلاف السنين، وليسوا منذ (30) أو (40) سنة كما هو صادق خان ووالده أو باراك أوباما ووالده. ومع هذا لا يزال الصراع في كل قطر عربي قائما بين مسيحي ومسلم ،وعربي وأمازيغي وكردي، وشيعي وسني، وقيسي و يمني ، و شمالي و جنوبي.. و القائمة لا تنتهي. لماذا ؟ لأن التربية العربية والثقافة و الفكر والإعلام والممارسة اليومية لأنظمة الحكم والإدارات و المؤسسات، لا تجذر مفاهيم ومبادئ واخلاقيات وسلوكيات الوطنية والمواطنة و المشاركة والتنوع، وانما تجذر مفاهيم الحكم والسلطة والهيمنة واقصاء الآخر.
المسلمون في بريطانيا أقلية ولكنهم خلال مؤسسات الدولة والمجتمع يصلون الى ارفع المناصب لخدمة الناس، ولكفاءتهم واخلاصهم وليس لدينهم أو لون بشرتهم .والمسلمون في الهند أقلية لا تزيد عن 12% ،ومع هذا رأس الهند من المسلمين أربعة رؤساء ليس بسبب دينهم، وانما بسبب كفاءتهم وانتاجهم واخلاصهم للوطن والشعب ،والامثلة في العالم كثيرة في كندا وفي امريكا اللاتينية واوروبا.
ان نجاح صادق خان لمنصب “عمدة لندن” ينبغي ان يكون لحظة صدمة عقلانية للعرب،و نقطة انطلاق للمراجعة والتفكير والعمل في المنطقة العربية، وليس فقط للتغني والتهليل والتكبير.فصادق خان ليس نموذجا اسلاميا، ولا بطلا عقائديا ليفرح به المسلمون و يكتفون بهذا الفرح و كأنهم وصلوا إلى القمر. إنه مواطن بريطاني بكل عمق المواطنة والوطنية والحزبية الفعالة.و المطلوب من جميع الأقطار العربية، و القوى السياسية والمفكرين انطلاق للعمل نحو اعادة بناء مفاهيم وتشريعات وممارسات الوطنية والمواطنة والديمقراطية و القانون و المشاركة، وتعزيز الدور الإجتماعي الثقافي للأحزاب و منظمات المجتمع المدني لتصبح فاعلة، وفق برامج وطنية جادة ومستقرة ،وبمشاركة جميع الاطراف، فتصبح كلها جزء من تفكير المجتمع وعقله، وجزء من الممارسة اليومية على كل صعيد. فذلك هو الطريق الوحيد لدخول المستقبل بقوة التنوع و المواطنة بدلا من هشاشة التفرد و الإستئثار.