علمانية تحترم الدين/ ميشيل كيلو

هناك بلدان “علمانية” يصون نظامها الحقوقي الدين: بتركه لقيمه وإدارة شؤونه بواسطة مؤسساته، وحمايته من المجال السياسي، ومما يشوبه من عنف، ويهيمن عليه من كذب وفساد وتلاعب بالحقائق، وتخريب للأنفس والعقول والأرواح.

تسوس هذه البلدان “العلمانية” حكوماتٌ تحمل أسماء دينية، تشكّلها أحزابٌ تسمي نفسها مسيحية. تسقط هذه الحقيقة وهماً شائعاً في بلداننا، يعتقد أصحابه أن العلمانية لا تكون إلا إلحادية أو كفرية، وأنها معادية حتماً، وفي جميع حالاتها ووجوهها، للدين ورجاله. وتتمسك بعض الأوساط عندنا بهذا الاعتقاد، على الرغم من وقائع كثيرة جداً، تؤكد أن قسماً كبيراً من العلمانيين والمؤمنين بالنهج العلماني يؤدّون صلواتهم بانتظام، في أماكن العبادة وبيوت الله، على الرغم من تمسكهم بإنكار حق رجال الدين في اعتبار السياسة شأناً دينياً، وفي تقرير شؤونها من خارج مجالها القيمي والمعياري والمفاهيمي الخاص، لإيمانهم أن للدين معايير وقيماً لا تنتمي إلى المجال السياسي، وأن  مؤسساته لا يجوز أن تنفرد بتعيين هذا المجال، أو بالتحكم فيه ، أو أن تحدّد طبيعة الإرادة السياسية العامة التي تتشكل، وتفصح عن نفسها خارج حقل الدين والفكر الديني، وما يتركانه في الوعي البشري من آثار وبصمات.

يقول أعداء العلمانية إن المسيحية ليست كالإسلام، فهو دين ودنيا، أما هي فشيء آخر، دين مرة ودنيا مرة أخرى. بطابعها هذا، يضيف هؤلاء، أجبرت المصالح الدنيوية، أي السياسية، المسيحية، ممثلة في الكنيسة، على التخلي عن تقرير سياسات الدولة الحديثة، دولة القانون الوضعي وحقوقه الطبيعية والمكتسبة، الذي مارسته بابوية روما وبطريركية القسطنطينية عشرة قرون. تُرى، ألا تدحض هذه الحقيقة التاريخية المثبته رأي من ينكرون أن المسيحية لم تكن ديناً ودنيا؟.

“تدور العلمانية حول الإنسان وشروط وجوده وحريته، ويستخلف الإسلام هذا الإنسان في الأرض، جاعلاً منه محور الدين والدنيا”

تقوم الدولة الإسلامية، في رأي أنصارها، على الشريعة، وهي قانون إلهي يمد المسلمين بضماناتٍ وحقوقٍ مقدسة، تسمو على أية حقوق وضعية، تتذرّع الدولة بها في الغرب، لكي تخرج الدين من السياسة، أو تهمش دوره فيها.

بما أن فصل الدين عن الدولة هو وجه العلمانية السياسي، وجانبٌ منها وحسب، قوّضت قوى السياسة الحديثة، بواسطته، طغيان كنيسة كانت طوال قرون ديناً ودنيا، مؤسسةً سياسيةً وإلهية في آن معا، فإن هذا الوجه، السياسي/ العملي لا يحجب حقيقة أن للعلمانية مضموناً فلسفياً يتخطى التمييز بين مجالين، أحدهما إلهي/ مقدّس، والآخر دنيوي/ وضعي، من المنطقي أن يحترم الفاعلون، في كل مجالٍ منهما، خصوصية المجال الآخر، من دون أن يتسم موقفهما بالعداء، أو يُقصي أحدهما الآخر، ويخرجه من المجال العام من جهة، أو يقيد حضوره داخل مجاله الخاص، أو يحول بينه وبين المشاركة في الشأن العام وأنشطة الدولة الحديثة من جهة أخرى، انطلاقاً من موقعه الخاص الذي يجعله يرى السياسة، ويمارسها في ضوء قيمه ورهاناته. بقول آخر إن العلمانية لا تفصل الدين عن المجتمع والسياسة، أو عن الإنسان، بل تؤكد فلسفياً على موقعه المركزي في علاقته بالإلهي وبالطبيعة والمجتمع، وتبرز قدرته على تملك العالم فكرياً، بطرق عقلية وعقلانية، مختلفة عن التي يتملكه بها العقل الديني، وعلى تغييره بوسائل وأدوات دنيوية، لا يجوز للفكر الديني الانفراد بإملائها، أو تقرير طابعها وتطبيقاتها. تقول العلمانية إن الإنسان ليس الله، والله ليس الإنسان. والدين ليس الدنيا، والدنيا ليست الدين. والعالم ليس الجنة، والجنة ليست العالم. لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يعرف الله، ولا يحتاج إليه، وإلى الايمان بالقيم التي أنزلها على أنبيائه ورسله.

بتحرّر الإنسان من الكنيسة (وليس الدين)، وبفصله ما هو إلهي عن السياسة ومصالحها وتناقضاتها وأمزجة رجالها ودنيوياتهم، لم يعد في استطاعة المؤسسة الدينية، أو المشيخية، استخدام الديني والمقدس، وتالياً الإلهي، لخدمة مصالح يفتقر كثيرٌ منها إلى القداسة، أو يتفق مع الدين وقيمه، وانفصل الإلهي عن هذه المصالح، وتحرّر منها، الأمر الذي أفقد المؤسسة الدينية قداستها المزعومة، ومكّن الإنسان من الإيمان بخالقٍ لا يشبهه أحد، وجعله قادراً على عبادته بنزاهةٍ وتجرّدٍ وحرية، وعلى تملكه داخل كيان الذاتي الخاص الذي صار حرّاً لأسبابٍ، بينها تقليص دور الكنيسة السياسي، المعتبر، كذباً، جزءا من دورها الديني الذي أصابه تغير جذري مع الحروب الصليبية، وإصلاح مارتن لوثر الديني، أوائل القرن السادس عشر، وما ترتب على الحروب الدينية التي أعقبته من إبادةٍ طاولت ملايين الناس في طول أوروبا الوسطى والشمالية وعرضهما، وجرّدت الكنيسة مما كانت تدّعيه من طابعٍ إلهي ومقدّس، وأخذتها إلى حاضنةٍ تاريخية/ إنسانية، تخلقت العلمانية فيها تدريجياً، تطور بفضلها معنى ومضمون جديدان للقداسة، استناداً على احترام حق الإنسان في أن يكون مستقلاً عن الكنيسة والمذاهب الدينية المؤسسية، وعلى رؤية الدين بدلالة حرية فكر ومعتقد فردٍ يبتعد عن كنيسةٍ قيد بحريته قدرتها على انتهاك حرمة البشري والإنساني، في ممارساته ومعتقداته الدينية التي اكتسبت بعداً شخصياً متزايداً.

بذلك، بلغ الإلهي أوج تجرّده مع العلمانية، ومثله الإنساني. بينما فقد الدين الكنسي، والمؤسسي، قدراته وطابعه الإكراهي، المفروض بقوة قداسة مزعومة، واقترب من الإلهي من أنسنةٍ صحّحت علاقة المؤمن بخالقه ومكانه منه. ومع أنه كان من الطبيعي أن يشتط بعض العلمانية ويؤله الإنسان، فإن العائد الذي ترتب عليها في الفكر والواقع كان لصالح أطرافه جميعها: الله والإنسان، المؤسسة الدينية والدولة.

“هل يراجع أعداء العلمانية موقفهم منها، ويراجع أعداء الدين موقفهم منه، في ضوء ما هو مشترك بينهما: مكانة الإنسان المركزية في الوجود التي تؤكدها العلمانية، ويضعها الإسلام في موقعٍ لم تبلغه قبله أو بعده”

يرى رأي عام واسع عندنا في العلمانية إلحاداً وإخراجاً للدين من الدنيا. على الرغم من ذلك، ليست العلمانية إلحادية، وهي تؤمن باستحالة تخطي الدين في حياة المجتمع والفرد، وتعتقد أنها بما تمنحه للإنسان من حقوق تحفظ الإسلام، كدين تسامح وتفاعل إيجابي مع الآخر، وتوطّنه بصور جديدة في الدنيا. لا داعي، إذن، لما يمارسه رجال دين مسلمون من تحريضٍ ضد العلمانية، ونزعتها الفلسفية وعائدها السياسي. الغريب أن هؤلاء لم يروا في الإسلام ديناً يشجع على العلمانية، وتجاهلوا ما يوليه للإنسان من احترامٍ ومكانة، وأنه استخلفه هو، ولم يستخلف المسلم، في الأرض، وكلفه بإعمارها وبعدم الإفساد فيها. كيف يحارب مسلمون العلمانية إن كانوا قد قرأوا الآية “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك، ونسجد لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون”. ألم يفهموا معنى أن يستخلف الله الإنسان الذي قد يكون مسلماً، وقد لا يكون، وقد يكون مؤمناً وقد لا يكون، بعد أن فرّق القرآن الكريم بين الإنسان والمؤمن والمسلم، وجعل الثاني في مرتبةٍ إيمانيةٍ أصدق من مرتبة الثالث التي قد لا تكون حقيقية، حيث قال، في محكم كتابه، بوجود مسلمين غير مؤمنين: “قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، بل قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”. للإنسان بإطلاق، كاسم نوع، مكانة خاصة في الإسلام، تسمو على مواضعاته، كأن يكون مؤمناً صادق الإيمان، أو مسلماً منافقاً، أي غير مؤمن. هذه المكانة تعطى للمسلم إن كان مؤمناً. وبالتالي، إنساناً يعمر الأرض، ولا يفسد فيها. بالفصل بين الإنسان وبين المؤمن والمسلم، وباستخلاف الإنسان من دون ذكر مواصفاته الدينية أو الإيمانية، وبتفضيل المؤمن على المسلم، فكيف إن كان غير مؤمن. يدعو الإسلام إلى علاقةٍ مفتوحةٍ وحرة مع الإلهي، ويقرّ بمكانة الإنسان، بما هو إنسان وحسب في الدين، ويربط بينهما برباطٍ مزدوج: آخروي/ دنيوي ينزّهه عن النفاق والإيمان الكاذب. في حين، في المقابل، من شأن الإنسان الذي خصّه الله بالاستخلاف، وأسند إليه مهمةً محض دنيوية، تتصل بما يجب أن تكون عليه وظيفته الدينية التي ترضي خالقه، بغض النظر عن تعييناته الدينية: كان مسلماً أم مؤمناً أم لم يكن، عنيت إعمار الأرض وعدم الإفساد فيها.   

يرى الإسلام أن الإنسان لا يستطيع الخروج على ما قدّره الله له. لذلك، أي ضير في استخلافه، إذا كان قد زوده بالقيم التي تضبط موقفه من الأمانة التي حمّله إياها، وإليه المنتهى في نهاية الأمر، علماً أن أغلبية البشرية ليست من المسلمين، وأن الإسلام جاء رحمةً للعالمين: أي للمسلمين وغيرهم، وأنه يمنح رحمته للمؤمنين وغير المؤمنين به، فالدين للإنسان، كمخلوقٍ لا يتعين بأي معيار خارجه غير المعيار الإلهي الذي يسمو على معايير الدين، وإلا ما معنى أن يكون هناك مسلمون غير مؤمنين؟ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يمحو بعض رجال الدين هذا التفريق الذي أقامه الإسلام بين الإنسان والمؤمن والمسلم، ويتجاهلون أن الخالق استخلف الإنسان، ووضع المؤمن الذي ليس مسلماً بالضرورة، في مكانةٍ أرفع من مكانة مسلمٍ قد لا يكون مؤمناً، في النص القرآني الشريف؟

تدور العلمانية حول الإنسان وشروط وجوده وحريته، ويستخلف الإسلام هذا الإنسان في الأرض، جاعلاً منه محور الدين والدنيا، وكائناً يتعين، بوجوده وفاعليته، كل ما في الوجود، فهو سيده المكلف بعمرانه، ومنع الإفساد فيه، لأن عمرانه أعظم الإيمان، والإفساد فيه أفظع الكفر.

هل يراجع أعداء العلمانية موقفهم منها، ويراجع أعداء الدين موقفهم منه، في ضوء ما هو مشترك بينهما: مكانة الإنسان المركزية في الوجود التي تؤكدها العلمانية، ويضعها الإسلام في موقعٍ لم تبلغه قبله أو بعده. أليس استخلاف الإنسان في الأرض تكريماً لم يبلغه في أي دينٍ أو فكر سابق؟

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري