اعتُبرت التكنولوجيا إحدى أبرز محرّكات ثورات الربيع العربي، إذ عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، تمكّن المصريون من تجاوز الأطر الأمنية التقليدية، وفتح المجال واسعاً لانتقاد نظام حسني مبارك السابق، ثم للنداءات والدعوات إلى إقامة المسيرات والمظاهرات التي أنتجت ثورة 25 يناير 2011.
والحال لم تكن فقط في مصر، إذ استثمر جيل الشباب الجديد في ثورة الإنفوميديا جيّداً، واستبدل الوسائل الإعلامية التقليدية بالوسائل الجديدة والفضاء الإلكتروني، فأصبح “العالم الافتراضي” مشاركاً فاعلاً في إعادة صوغ “العالم الواقعي”.
أحد الأخطاء الفادحة في تعامل الحكومات العربية مع دور العالم الافتراضي في تحريك المياه الراكدة أنّها افترضت أنّ هذه الوسائل مجرد “أدوات تكنولوجية” في عمليات التجنيد والتعبئة والتأطير. لذلك، عمدت إما إلى محاولة حصارها وتحجيم مضمونها، ووضع القيود التشريعية والرقابية، أو تجنيد أعداد هائلة من المخبرين والعملاء والمتطوعين وتوظيفها لدعم الأنظمة في مواجهة النشاط الافتراضي المعارض. إلاّ أنّ ما لا تدركه الحكومات والأنظمة أنّ القصة تتجاوز البعد التكنولوجي إلى المحتوى الثقافي والقيمي والاقتصادي، ما يؤدي إلى تغييراتٍ جذريةٍ متسارعة، في العالم العربي، مع مرور الوقت، ومع حجم النمو المذهل في استخدام الإنترنت في العالم العربي، وقدرة شرائح اجتماعية واسعة في الوصول إلى الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو رقم تضاعف مرات عدّة منذ لحظة ثورات الربيع العربي عام 2016، حتى أصبحت الأغلبية العظمى من المواطنين العرب قادرةً اليوم للوصول إلى الإنترنت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
يُطلق متخصصون في مجال الاستثمار على السوق الجديد الذي يقوم على العالم الافتراضي، مصطلح “الطرق السريعة” High Ways، الجديدة في الاقتصاد العربي والعالمي، فهذه الشركات تتجاوز، اليوم، كثيراً من عوائق العالم الافتراضي وكلفه، وتختزل الجغرافيا وتشكّل قوى صاعدة سريعة في عالم الاقتصاد، وبدأت تحقق أرباحاً ملحوظة وكبيرة، مثل شركة سوق على سبيل المثال، التي أصبح رأس مالها مئات الملايين، وغيرها من شركات عديدة، بدأت تنشأ وتنشط في السوق الافتراضي.
“أحد الأخطاء الفادحة في تعامل الحكومات العربية مع دور العالم الافتراضي في تحريك المياه الراكدة أنّها افترضت أنّ هذه الوسائل مجرد “أدوات تكنولوجية” في عمليات التجنيد والتعبئة والتأطير”
لا تقتصر أهمية هذه السوق الافتراضية على الجانب الاقتصادي، فهي، كما يقول خبير في هذا المجال، تحمل في ثناياها ثقافة وعقلية جديدة لدى المواطنين العرب، تتأسس على الاستقلال عن الدولة واقتصادها الكلي، وتوظف الشباب الجديد في أعمال حرّة ومهن جديدة، وتنظر إلى الدولة وجهازها البيروقراطي نظرة مختلفة عن النظرة التقليدية التي تستبطنها الاقتصاديات التقليدية، التي ترتبط بالدولة بصورة أكثر، حتى ضمن القطاع الخاص التقليدي.
وفقاً للمعطيات الرقمية؛ فإنّ حجم التطور والنمو في استخدام الإنترنت والبيانات الإلكترونية كبير جداً، بل حتى في طبيعة الأجهزة المستخدمة اليوم، إذ يتضاعف اعتماد المواطنين العرب على الهواتف الذكية Smart Phones، للتواصل عبر الإنترنت، بصورة ملحوظة، بل هو الاعتماد الأكثر نمواً على الصعيد العالمي، ومن المتوقع أن يصل عام 2021 إلى 16 ضعف مقارنة بعام 2015، (وفقاً لتقرير مؤسسة أريكسون موبايلتي Ericson Mobility report 2015).
بالإضافة إلى الأسواق الجديدة الصاعدة والتوظيف السياسي للإنترنت والتحولات الثقافية التي تقوم على هذا التطوّر الجديد في العالم العربي، فإنّ الإعلام الافتراضي أيضاً يخترق الخطوط جميعاً، ويحقق نسب مشاهدة مرتفعة جداً، تتجاوز كثيراً وسائل الإعلام التقليدي، ففي السعودية فقط، مثلاً، تصل نسبة مشاهد “يوتيوب” في اليوم الواحد إلى 90 ألف مشاهدة، ويعدّ السعوديون الأكثر مشاهدة لليوتيوب على مستوى العالم.
وفي الأردن، وفقاً لدائرة الإحصاءات في عام 2014، فإنّ نسبة الأسر التي يتوفر لديها انترنت في المنازل وصلت إلى 69%، مقارنة بـ35% في العام 2012، وتشير الإحصائيات أيضاً إلى أنّ نسبة الاعتماد على الهواتف النقّالة في الوصول إلى الإنترنت وصل إلى 98%، ما يظهر انتشاراً واسعاً وكبيراً لهذا النمط من الهواتف الذي يتيح استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بصورة أكثر مرونة ومستمرة، مقارنة بالكمبيوترات المحمولة أو الثابتة، ما يعني أنّ النسبة العظمى من الأردنيين هم On Line أغلب الوقت.
دعونا، إذن، نعيد قراءة المشهد العام، بعد هذه الأرقام الخاطفة عن حجم الازدياد والانتشار الهائل للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والاعتماد على الهواتف الذكية؛ ففي عالم عربي تحاول فيه الحكومات الحفاظ على الأنظمة الاستبدادية، وتعتمد على الأجهزة الأمنية لمنع التغيير، وتعاني من أزمات اقتصادية خانقة، ومن مستوى مرتفع جداً من البطالة والفقر، وارتفاع مستوى المعيشة، وطبقة وسطى تواجه ضغوطاً شديدة، وجيل من الشباب الصاعد يواجه انسدادات سياسية واقتصادية.
في ضوء هذه المعطيات جميعاً، تنشأ أسواق جديدة وقوى صاعدة في العالم الافتراضي، تتحرّر من العلاقة العضوية مع الحكومات، وتتوسع هذه الأسواق، ويزداد اشتباك أغلبية المواطنين العرب مع الإنترنت، وتعجز السدود الأمنية التقليدية عن مواجهة الأفكار والثقافة الجديدة لجيل “السمارت فونز”، فإنّ مثل هذا الجيل الجديد لا يمكن أن يقبل بمعادلات سياسية بالية وتقليدية. صحيح أنّ تنظيمات متشددة، مثل “داعش” وأخواتها، تحاول تجيير حالة الغضب والرغبة في التغيير لدى الجيل الجديد، وعبر الإنترنت لتجنيد الشباب، ونجحت في ذلك بصورة غير مسبوقة لدى أي تنظيم جهادي سابق. لكن، صحيح أيضاً أنّ “داعش” ليست خيار الشريحة الاجتماعية الواسعة من الجيل المعولم الجديد، وتحديداً أبناء الطبقة الوسطى والقوى الصاعدة، فسيبحثون عن أفق مختلف، وعن إعادة صوغ الواقع السياسي بما يتوافق مع العوالم الثقافية والاقتصادية الجديدة.