بعد هزيمة العرب في حرب عام 1967، تولى وزير الخارجية الأميركي لاحقاً، هنري كيسنجر، استثمار الانتصار لصالح بلاده وإسرائيل، ووضع مبدأً اعتقد أنه سيتكّفل بإسقاط العالم العربي المهزوم في هاويةٍ، أراد له ألا ينهض منها عقوداً طويلة. يبدو أن هذا المبدأ يطبّق من جديد في أيامنا، مثلما طبّق طوال حقبة ما بعد 1967، وأدى إلى منع تطبيق القرارت التي أصدرها مجلس الأمن حول تسوية الصراع العربي/ الإسرائيلي، وتمسّك بمنع الحل قبل سقوط العرب والقضاء على مشاريع نهضتهم ومقوّماتها، وكسر إرادتهم والتخلص من أي جهد قومي توحيدي، أو وطني تجديدي، وتفكيك دولهم ومجتمعاتهم، وردّها إلى مرحلة ما قبل الأمة، في طورٍ أول، ثم ما قبل مجتمعيةٍ في طور تال، هو الذي نعيش في أيامنا، وفرضه النظام الأسدي على سورية بقوة السلاح.
قال مبدأ كيسنجر: الحل ألا يكون هناك حل للمأزق العربي، قبل اكتمال سقوط العرب بقوة مواقف وسياسات تجعل الحلّ خطوة أخيرة، وليس أولى، على أن تتكفل إسرائيل وأميركا ببقائهم في هزيمتهم، ومنعهم من القيام بأية محاولة لتنظيم قواهم الذاتية وتعزيزها، أو لتغيير حقلهم السياسي الذي أفضى إلى انهيارهم السريع أمام عدوهم.
يتبنى الأميركيون، اليوم، مبدأ كيسنجر في سورية التي عملوا لتحويلها إلى عقدةٍ، تتشابك فيها، وتتفرّع عنها، صراعات محلية وعربية وإقليمية ودولية. ويمارسون، من جديد، سياسةً تجعل “اللاحل هو الحل”، ويحرصون على استمرار الاقتتال، بالإبقاء على النظام، وتجاهل دور مرتزقة إيران الذين استقدمهم إلى سورية، وكذلك من قدم إليها من إرهابيين ومجرمين بواسطة أجهزة أمن روسية ومحلية، ينخرطون بقوة في تدمير دولة سورية ومجتمعها.
تتبنّى واشنطن، اليوم، سياسة اللاحل، لتحقيق أهدافٍ كانت قد تبنتها إدارة بوش بعد احتلال العراق، حدّدتها وزيرة خارجيتها، كوندوليزا رايس، بتفكيك المنطقة وإعادة تركيبها، من خلال استراتيجيةٍ تقوم على إشاعة “الفوضى الخلاقة” فيها. بما أننا اليوم في طور التفكيك الذي سيعين نمط وأبعاد إعادة التركيب، لكنه لم يكتمل بعد، فإن استمراره يصير محتماً إلى أن تكتمل شروط ومقومات مرحلة إعادة التركيب المقبلة التي تقول قرائن عديدة إنها لن تقتصر على سورية، بل ستطاول دولاً أخرى، ورّطتها واشنطن في الصراع السوري، سيعاد تركيب أوضاعها، بلداً بعد آخر أو بالجملة، ما أن تكتمل شروطه المتشابكة التي تتراكم، اليوم، في الساحة السورية عامة، وفي حلب ومنطقتها، وصولاً إلى الجزيرة بصورة خاصة. يمكن رؤية أدلةٍ على تراكم هذه الشروط في اليمن والعراق وسورية وليبيا، بينما يمكن للبيئة التي تُحدثها أن تؤثر في أي وقت، وبشدة، في بلدان عربية تهدّدها نزاعاتٌ داخلية وتدخلات إقليمية، تتشابه أحداثها ومجرياتها، وتعاني نخبها الحاكمة من عجزٍ يحول بينها وبين وقف فوضى تعصف بجيرانهم، يرونها قادمةً إلى بلدانهم، تنتشر اليوم تدريجياً من مراكزها الحالية شمال الجزيرة العربية وجنوبها، وفي القلب من شمال أفريقيا، وتتقدّم نحوهم، بإسهامٍ من أطرافٍ متناقضة ظاهرياً، لكنها تشارك جميعها في صراعٍ موحد الاتجاه، وله نتائج متقاربة أو موحدة، ضمن لحظةٍ تاريخيةٍ، مكّنت واشنطن من تركيب وضعٍ ينتج قدراً غير محدود من القتل والدمار، يبدو بجلاء أن أحداً لا يستطيع وقفه، أو الخروج منه، أو حتى العمل ضدّه، مع أنه يطاول الجميع، ويجعلهم يبدون وكأن أيديهم مكبلةٌ بأغلالٍ تفقدهم القدرة على المبادرة والحركة.
هناك خياراتٌ عديدة في وسعها وقف فوضى أميركا الخلاقة وسياسة “اللاحل هو الحل”، وما تنتجه من زحفٍ حثيثٍ في جميع الاتجاهات. ومن دمارٍ لا يوصف، لم يسبق للمنطقة العربية أن تعرّضت له، حتى إبّان الغزو الإفرنجي/ المغولي. أول هذه الخيارات يكمن في الانفكاك عن أميركا ومقاومة سياساتها، وما تضمره من أخطار، بدل قبولها والاحتماء بها. هل بين العرب من يمكن أن يقدم على خطوةٍ كهذه، صعبة ولا شك، لكنها تمنحهم الحق في تقرير شؤونهم بأنفسهم، أم سيستمر التفرّج المرعب على ما يجري في سورية، ويعلم الجميع أنه قادم إليهم، إن ظلوا على حالهم الراهنة؟
يواجه منطقتنا خطران داهمان: التفكيك بالفوضى والتركيب بالمساومات والصفقات، مع إيران وروسيا. ماذا يتوقع نيام العرب أن يكون مصيرهم، إذا كانوا يتعلمون حقاً مما يجري في سورية؟