كانت الأزمة الاقتصادية في أساس الأسباب التي أدت إلى انفجار الثورات، حيث أفضت مركزة الثروة بيد أقلية ضئيلة وإفقار الأغلبية من خلال البطالة المرتفعة، أو الأجر المتدني، وسحب كل المنجزات التي تحققت خلال عقود سابقة، من مجانية التعليم والضمان الصحي إلى توازن الأجور والأسعار عبر دعم الدولة السلع وضبط الأسعار، أفضت إلى أزمةٍ مجتمعيةٍ فرضت هذا الانفجار.
بالتالي، كان من أواليات ما يجب أن يتحقق، بعد التغيير الذي حدث هو “إعادة توزيع الثروة” لحل المشكلات سالفة الذكر. لكن ما جرى عكس ذلك تماماً، حيث لم يجرِ الالتفات إلى البطالة التي هي في تزايد سنوي، نتيجة غياب فرص العمل، ولا جرت الموافقة على زيادة الأجور، بما يسمح بتحسين وضع تلك الأغلبية، بل إن ما جرى هو أن السياسة الاقتصادية التي أفضت إلى كل تلك المشكلات، أي سياسة اللبرلة وتعميم الخصخصة، تصاعدت وتوسعت، لتشمل قطاعاتٍ كانت وما زالت عامة، مثل التعليم والصحة. وبدل زيادة الأجور زادت الأسعار بشكل متسارع، لتزيد من الأزمة المجتمعية. كما زادت الضرائب، وكأن الدولة تنهب الشعب.
حجج النظم “الجديدة” أنها ورثت من “النظام القديم” وضعاً سيئاً لا حل له، وأن على الشعوب أن تتحمل الوضع، لأنه الخيار الوحيد القائم، وأيضاً أن تتحمل كل السياسات الجديدة التي هي إغراق في اللبرلة والخصخصة، لكنها أساساً إغراق في مركزة الثروة، وفي إفقار الأغلبية التي زاد عددها مع حدوث ذلك التمركز. وبالتالي، يمكن القول إن الثورات أتت بـ “نظامٍ” لا يحمل حلاً للمشكلات التي طرحها الشعب. على العكس، ظهر أن الحل الذي يُطرح هو الذي يخدم الرأسمالية المافياوية، حيث كان الإيغال في الخصخصة واللبرلة يخدم هذه الطبقة، وكان مطلوباً أن تستمرّ في نشاطها المافياوي بحماية النظام نفسه، فهي تريد الاستمرار في تحقيق التراكم السريع.
تراكمت الأزمة المجتمعية، وتعمم الفقر والبطالة. لكن، أيضاً باتت الدولة في أزمةٍ نتيجة الإيغال في المديونية، على الرغم من أنها كانت تمتلك ثروة هائلة قبل سنوات قليلة، فقد سُرقت في مسار الخصخصة والاستدانة، وهو المدخل الذي أوجد “رجال أعمال جددا”، أو مافيا جديدة، وهي المافيا التي نهبت ملكية الدولة، واستولت على جزءٍ مهم من الديون. كانت السلطة الممر الذي عبره استحوذت فئة قليلة على كل الثروة التي راكمتها الدولة طوال عقود، من خلال دور “القطاع العام”. وباتت معنية باستمرار سيطرتها الاقتصادية ونهبها المتسارع.
لكن، على الرغم من ذلك، يجب أن يكون الحل على حساب الشعب الذي أدت كل سياسات الخصخصة إلى إفقاره. حيث يجب أن يرضى بالبطالة وبالأجر المتدني، ويقبل زيادة الضرائب، ويقتنع بضرورة الخصخصة. وأيضاً أن يقبل بتخفيض الضرائب على الرأسمالية التي هي وحدها التي تحمل الحل. فأقساط الدين وفوائده يجب أن يدفعها الشعب عن طريق زيادة الضرائب، وإنهاء دعم السلع والخدمات والتعليم والصحة. واستمرار مراكمة أرباح المافيات الحاكمة يجب أن يكون على حساب الشعب من خلال زيادة الأسعار والحفاظ على “استقرار” الأجور، وحتى البحث في تخفيضها. هذا الشعب الذي أُفقر إلى حد الوقوف على حافة الموت جوعاً.
ليس من خيار لدى النظم، والطبقة الرأسمالية المافياوية التي تحكم سوى أن توغل في سياساتها. لكن، هناك حل آخر بالتأكيد، حيث على الدولة أن تعكس منظورها، بحيث يكون الحل هو على حساب تلك الرأسمالية المافياوية التي نهبت الاقتصاد طويلاً، وسرقت “القطاع العام” وأراضي الدولة، والمساعدات المقدمة من دول أخرى، وحتى الديون. ما يعني أن تصادر أموال هؤلاء، لكي تكون بداية “نقدية” لكي تعيد الدولة نفسها بناء الاقتصاد، بما يؤسس لمشاريع تحل مشكلات البطالة واستيراد السلع وتحقيق فائض قيمة. المصادرة هي الحل، لكن ذلك يفرض تغيير السلطة الطبقية من سلطة مافيا إلى سلطة الشعب نفسه.