كان لا بد للسعودية أن تقوم بهذه الانعطافة الكبرى. التحديات الداخلية والخارجية لم تترك للمملكة الكثير من الخيارات، بعد التغيرات الهائلة التي شهدها الاقتصاد العالمي، وتراجع مكانة النفط الخليجي في استراتيجية الدول الغربية.
على المستوى الداخلي، أثقل النظام الريعي كاهل الدولة، ولم يعد قادرا، رغم الثروات الهائلة، على الإحاطة بمتطلبات الناس، أو الاستجابة لضرورات العصرنة والتحديث التي تحولت بفضل “الميديا” إلى تحد عابر للحدود والدول وأجهزة الرقابة.
كان لا بد من الانعطافة، لأن العقود الطويلة من الإدمان على النفط، والخضوع لثقافة أحادية إقصائية، وضع المجتمعات على حافة الانهيار.
وعلى أهمية الجانب الاقتصادي من “رؤية السعودية 2030″، فإن ما ورد في الخطة من برامج وتصورات لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السعودي في المستقبل، هي أكثر ما يثير الاهتمام.
فالخطة اقتربت من “تابوهات” ما كان يخطر بالبال المس بها سابقا، وكسرت محظورات ثقافية واجتماعية وتاريخية؛ إذا ما قيض لها أن تنجح، فإنها ستنقل السعودية إلى مكانة غير مسبوقة.
قبل إعلان “الرؤية” وحديث ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لم نكن نسمع في الخطاب السعودي كلمات مثل الشفافية والحوكمة، وحق الشعب في الاطلاع على موازنة “أرامكو”، ورفع الدعم عن الأثرياء وطبقة الأمراء، وضبط الإنفاق، والسياحة والترفيه والتاريخ الحضاري للمملكة قبل الإسلام.
وقبل مقابلة “العربية”، لم نعهد مسؤولا سعوديا رفيع المستوى يتحدث بهذه الطلاقة والرشاقة، ويساجل بديناميكية عالية دفاعا عن وجهة نظره، لا بل ويعترف بوجود معارضة لرؤيته داخل السعودية، ويبدي الاستعداد للحوار معها. هذا شيء جديد على السعودية، وخطوة أولى جبارة على طريق الانفتاح.
لكن معركة محمد بن سلمان لن تكون سهلة. القوى المحافظة والمهيمنة على مفاصل الدولة والمجتمع، ستقاوم التغيير بكل قوة. والبيروقراطية العنيدة قادرة على فرملة الإصلاحات إذا لم تجد من يتصدى لها. تجارب عديد الدول والملكيات تشي بذلك.
وليس أمام صاحب “الرؤية” سوى العمل على بناء تيار عريض؛ في مؤسسات الدولة وفي المجتمع ووسائل الإعلام، يتبنى مشروعه ويدافع عنه، ويسهر على تنفيذه. وهذا تحد كبير بالنسبة لبلد مثل السعودية، يفتقر لتقاليد العمل العام وخبرة منظمات المجتمع المدني وحرية وسائل الإعلام.
بمعنى آخر؛ نجاح الخطة الاقتصادية والتنموية مرهون بإصلاحات ديمقراطية، تطال وسائل الإعلام والمنظمات الاجتماعية الفاعلة، وتفعيل دورها، لبناء مسار مواز لا يمكن من دونه التقدم في المسار الاقتصادي والتنموي.
القوى الدولية ودول الجوار العربي معنية كلها بنجاح “البيرسترويكا” في السعودية، لأن الفرص الهائلة التي سيتيحها الصندوق السيادي السعودي ستكون المحرك العالمي للاقتصاد والتنمية والمشاريع الاستثمارية العملاقة.
في المحصلة، الانعطافة الكبرى في السعودية هي، في أحد تجلياتها، رد فعل موضوعي على التحول الكبير في سياسات أميركا الخارجية، ونهاية عقد الامتياز بين واشنطن ودول الخليج، مع تراجع مكانة النفط في الاستراتيجية الأميركية.
إزاء هذه الحال، كان لا بد للسعودية، ومن خلفها دول الخليج، أن تبحث لنفسها عن دور جديد، يتجاوز حقول النفط وسياسة الاعتماد على الغرب.