على ذمة الشمع الأحمر/ عيسى الشعيبي

كان إغلاق المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين في العاصمة، وتتابع ختم فروعها بالشمع الأحمر في المحافظات، حدثاً من العيار السياسي الثقيل، دوّت أصداؤه لدى النخبة المحلية، وسُمع تردده في الخارج، نظراً لخروج هذا الحدث الاستثنائي عن تقاليد حياة سياسية مديدة، ظلت تتسم بالتسامح، وتستوعب الاختلاف مع التنظيم الذي يقول إن عمره من عمر الدولة، حتى لا نقول إن هذه التقاليد كانت تميّز الجماعة، وكانت أيضا توظفها سابقا في خدمة الأجندات الحكومية المتغيرة.

على أي حال، كان هذا الحدث غير مفاجئ للكثيرين، ممن كانوا يستشرفون مآلات الاحتكاك والكباش المتواصل مع الدولة، التي كانت بمثابة رئة التنفس الأخيرة لأحد فروع الجماعة الملاحقة في المحيط المجاور، وكان متوقعا، كتحصيل حاصل، ممن كانوا يقرأون جيداً مغزى تهديد الجماعة بالتحول إلى “المعارضة الخشنة”، ويستهجنون استشراء الانقسامات الداخلية، ليس حول الرؤية السياسية والمسائل المبدئية، وإنما حول أحقية من يمسك بزمام السلطة الداخلية.

ومن اللافت حقاً أن هذا الحدث المفصلي في حياة الجماعة، قد مر من دون أن يثير أي زوبعة، أو يؤدي إلى تعكير صفو الحالة الأمنية المستقرة؛ فلا اعتصام أو مظاهرة، ولا خروج عن القانون. وهو أمر حسن على أي حال، إلا أنه هو الآخر كان أيضا مفاجأة في حد ذاتها، لاسيما بالنسبة لمؤسسات الدولة التي كانت تحسب حساب ردات الفعل المتشنجة، وتتحوط إزاء ما قد يقع من تفلتات موضعية محتملة، لدى تنظيم يقول “امسكوني” حتى لا أدخل تحت الأرض.

وأحسب أن هذه الخاتمة غير السعيدة لمسار أكبر تنظيم حزبي، كان حتى الأمس القريب يترفع عن الحوار مع الدولة، ويقاطع الانتخابات العامة، ويمّيز نفسه حتى عن أحزاب المعارضة، انتجها عاملان أساسيان تسببا معا في تسريع هذه الخاتمة الحزينة؛ أولهما ذاتي نابع من الذهنية الأحادية القاصرة عن فهم التطورات، إلا باعتبارها مؤامرة أبدية متواصلة على الأمة. الأمر الذي أدى إلى الانغلاق على الذات، والافتقار للقدرة على الاستجابة للتحديات، والتكيف مع المتغيرات الملحة.

وثانيها، عامل موضوعي، يخص البيئة السياسية المتغيرة في إقليم متغير، كان يتعايش مع الحالة الإسلامية على مضض، ويراقب صعودها التدريجي بقلق، قبل أن يشهد هبوطها السريع، وينقلب عليها بضراوة، وذلك عقب تكرار فشلها في إدارة البلاد، وعقد التحالفات مع الشركاء، وميلها الجامح إلى إقصاء الآخرين والاستئثار بالسلطة، و”أخونة” الحياة العامة، ناهيك عن تقديمها لجملة نماذج من الحكم التسلطي البائس، سواء في مصر أو السودان أو قطاع غزة.

إذ يروي لنا التاريخ بمكره البالغ، وعظاته الثمينة، أن أكبر التنظيمات السياسية المعارضة، لاسيما الدينية، كانت تقوّض نفسها بنفسها في نهاية المطاف، إذا لم تتيسر لها قيادة براغماتية معتدلة، تقرأ اللحظة التاريخية بشكل جيد، وتستجيب لمتطلبات الواقع وضروراته، بدلا من الترفع عليه، ومعاندة الحقائق الموضوعية، والتعلق بأوهام الغلبة، والقدرة على تجاوز الأزمة. وهو سياق أفضى دائماً إلى تفكيك أشد البنى التنظيمية صلابة، حتى إن كانت لديها أوسع القواعد الشعبية.

بعد أن حدث ما حدث، وقضي الأمر بالشمع الأحمر، لم يعد مهمّاً الاستغراق في نقاشات مطولة، حول ما إذا كانت دوافع قرار الإغلاق، وحظر الجماعة تنظيمياً، دوافع سياسية مبيتة، أم كانت قانونية محضة، وذلك على ضوء الحقيقة المعاشة في العالم العربي كله، ألا وهي أن هذا الزمن لم يعد زمن جماعة الإخوان المسلمين، حتى لا نقول إنه مع الأسف لم يعد زمن الأحزاب على مختلف مرجعياتها، ليس في هذه المنطقة فحسب، وإنما أيضاً في أوروبا التي تشكو من انصراف الشبيبة إلى الشبكات الاجتماعية القائمة في العالم الافتراضي.

ختاماً، إذا كان لي أن أجتهد في تشخيص نقطة البداية الفاصلة بين الدولة والجماعة، وتخمين متى انقطعت بينهما شعرة معاوية، فإنني أعتقد أنها حدثت حين أقامت جماعة الإخوان حفلاً صاخباً بمناسبة صمود “حماس” في الحرب الأخيرة على غزة، حيث جرت يومها استعراضات شبه عسكرية، وعُرضت مجسمات صواريخ كرتونية، وظهرت على المحتفلين علامات الاستقواء والميل إلى المكاسرة، الأمر الذي أشعل الضوء الأحمر؛ هذا الضوء الذي انتهى بختم المقرات بالشمع الأحمر.

Related posts

اللي استحوا ماتوا* فارعة السقاف

تجربة النضال الفلسطيني: خصوصية مقاومة تقاوم التعميم* هاني ابو عمرة

كلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي* جواد العناني