عروبة الإخباري- لا يُدرأ الموت بالكلمات، ولا يُنأى بالتعاويذ وكثرة الابتهالات، سيما وإن كان الراحلون تواقون إلى السكينة والدعة، بعد حياة حافلة؛ صاخبة ومتلاطمة، والموت ملاذ التواقين إلى السكينة، ومرفأ المتعبين.
لا يليق بأنسي الحاج أن ندبج به ما تيسر من عرائض الرثاء، أو نكتب مسيرة صعوده إلى العلياء، سيما وهو المحب للحياة والحرية والجمال.
لكنه الآن يغفو إغفاءته الأخيرة، بالقرب من أمّه، التي افتقدها ولم يكن الفتى قد تجاوز السادسة من العمر، وظل اليُتم يحرّق روحه المتوقدة، طوال سني حياته التي بلغت السبعة عقود، بل ناهزتها، وحفر الفقد عميقا في أيامه، وجعلها كصحراء عطشى إلى أمومة مفتقدة، استعصى عليه تخيلها، أو محاكاتها في أنثى أخرى، وذلك رغم ما كان في روحه من خفة ظل، وما كان يبديه من كبرياء وأنفة وأناقة روحية.
رحل من كنا نظن أنه عصي على العمر، المتمرّد علىإرث الماضي، المقاتل من أجل الحرية بكل تناقضاتها، الشكّاك، الرافض للسائد، والاعتيادي، الخارج عن المألوفوالتدجين والعقلنة، كما القديس أوغسطين، القادر على إلحاق الدهشة بمن حوله، والسحر بمن رآه، أو استمع منه أو قرأ له.
وبرحيله طوى أنسي الحاج جناح المنازلة ومضى، على غير رغبة منه، بل بحسرة وغضب، فخسر الأدب العربي رائدا من رواده،أثرى المكتبة الشعرية والأدبية بمؤلفات لا تموت، ترجمت إلى لغات العالملما تحمله من تراث فكري عميق.
- ·قصيدة النثر:
علي يدي أنسي الحاج ولدت قصيدة النثر في النصف الثاني من الخمسينات، وقبل ميلاد قصيدة نثر عربية، وقبل أن تتكرس هذهالقصيدة في ديوان “لن”، الذي كان بمثابة الصرخة الاولى لـ “قصيدة النثر”، والذي صدر عام 1960.
فكان هذا الديوانمحطة أساسية في الشعر العربي خلال القرن العشرين، وبهذا كان التحقيب الشعري ينقسم إلى حقبتين؛ ما قبل”لن” وما بعد “لن”، ليؤرخ للتحول في الشعر العربي وقصيدة النثر تحديداً.
وبذلك، كان ديوان “لن” اول مجموعة ضمّت قصائد نثر عرّفت عن نفسهاعلناً بهذا الاسم. رغم أن أدونيس هوالمنظّر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية. ورغم صدور مجموعة الماغوط، “حزن في ضوء القمر“، قبل “لن” بعام كامل.
وذكر أنسي، في أكثر من مناسبة، أنه أطلق وأدونيس تسمية”قصيدة النثر” على الشعر الذي كانا يكتبانه وذلك في محاولة لإعطائها نوعاً من الوجود الشعري، أو الهوية، وكي يوقفا التسميات الأخرى، مثل: “شعر منثور”،و”نثر شعري” وما شابه ذلك..
وكان أنسي الحاج بدأ في كتابة هذا النوع الشعري على مقاعد الدراسةالثانوية، فحينئذ كانت التصنيفات الأدبية تنقسم بين شعر ونثر ونقد..، ولم يكنقد اطلع بعد على التيارات الأدبية الحديثة، ولذلك يقول: “كنت قارئاً ومعجباً بكتّابلبنانيين كتبوا شيئاً من النثر الشعري، خصوصاً أولئك الكتّاب الذين جمعوا بينالغنائية والتوتر”.
بعد عقود على تجربة أنسي الحاجورفاقه في مجلة “شعر” انتصرت قصيدة النثر، وكان انسي الحاج نبي قصيدة النثر، الذي بشّر بتأسيسها.
فقد كانت قصيدة النثر”، التي خلقها أنسي طوطما ساحرا، أو لقيطا، ما فتيء يقاتل من أجل شرعيّته، والاعتراف بنسبه إلى السلالة الشعرية.
وكتب أنسي عن قصيدة النثر وثيقته المقدّمة إلى مؤتمر قصيدة النثر في برنامج أنيس المقدسي للآداب في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2006 بقوله: “أنا قصيدة النثر الصغيرة الدخيلة، عشبة هوجاء لم يزرعها بستاني القصر ولا ربّة المنزل، بل طلعت من بركان أسود هو رحم الرفض. وأنا العشبة الهوجاء مهما اقتلعوني سأعود أنبت، ومهما شذّبوني لن أدخل حديقة الطاعة، وسأظل عطاءً ورفضا، جليسة أنيسة وضيفا ثقيلا، لأني ولدت من التمرد، والتمرد، التمرد الفردي الأدبي والأخلاقي، على عكس الثورة، لا يستكين ولا يستقيل حين يصل الى السلطة”.
وقبل أن ينهشه السرطان بنحو 6 عقود، كان أنسي الحاج من “سرطن” اللغة العربية بقصيدة النثر، بل جنّنها، خانها، أذهلها، خلخلها، فكّكها، عراها، وهتكها، لكن المفارقة أن اللغةُ هي من سلّمت نفسها إلى قلم أنسي الحاج وشاعريته، بملء عقلها، وارتخت بين أنامله!
- ·المتمرد الفوضوي:
من عايش روح أنسي الحاج المتمردة كان، بالتأكيد، صاحب حظ استثنائي، وفرصة تاريخيّة، بالتعرف على ذلك الرؤيوي، الذي لطالما بشّر من أوّل الطريق، بالأزمنة الآتية بقوله: “إن الشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظاً..إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمناً بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم”.
كان أنسي مع كسر القوالب، وتجاوز الحدود، وإعادة اختراع اللغة، كان يقف وراء نص فريد متناقض لايقل شبها عنه في جوانب كثيرة، فهو فوضوي حتى النخاع، وإن لم يكن يساريا، متمرّداً في اللغة والحياة، ومتمسّكاً بنظرته الخاصة إلى العالم على حواف الرجعيّة أحياناً.
كان شاهداً استثنائيّاً لا يقبل التصنيف، تضيق به الخنادق والاتجاهات، وتعتمل في أعماقه التناقضات بين إيمان وغواية، وانعزاليّة وراديكاليّة، ومحافظة وتمرّد وجودي وميتافيزيقي.
كان “أنسي شيطان مؤمنوملاك كافر”، فاجر ومؤمن، جمع بين صلاة الناسك وخطيئة منتهك اللغة، تمكن من تخريب اللغة واستطاع خلقها، وإمتاع القاريء، وإفساد ذائقته، فوضوي رجعي، بين اللغة واللا لغة، كان مسكونا بالحب، لكنه كان يهرب من أسر الحب بحثاً عن الحرية.
- ·قلم من نار:
حفر أنسي الحاج اسمه في وجدان القراء وعقولهم، عبر تميز عناوين كتاباته ومقالاته وقصائده وإبداعاته بدءا من “لن”، وصولا إلى “خواتم”.
فخاطبت وجدانياته وشذراته الحسيّةالقلب والعقل بلغة نثرية نادرة، وكان مما يقلقه تراجع منسوب النقد، وكان هاجسه حماية الهامش/ التخوم، التي كان يقف عليها دائما بعيدا عن محاولات استمالته أو استقطابه أو تجنيده وتوظيفه، سيما وأنه كان قاسياً في سخريته من كل شيء، من الأحزاب والأديان والسلطات والمعارضات والاحتلالات والمقاومات، ومن قهر العالم الغني على تخلف الفقراء.
فلطالما حثّ المرأة؛ مراهقة أو ناضجة، زوجة أو أمّا أو متفلتة من العائلة، على التمرد، على مساكنة الحرية في كل شيء. على الاهتمام بأجسادهن، وبأعمالهن، وبثقافتهن، و”على التدرب يوميا لقهر سلطة الرجل. فقد كانت المرأة المشتهاة، هي الاكثر قربا من قلبه وعقله”.
وفي كتاباته النثرية والشعرية تشعر بالدهشة، ولا تتخلص من الانبهار بالنص أيا كان جنسه الأدبي، بل والرهبة؛ حيث يتعايش القاريء أو المتلقي مع نص استثنائيّ ممزوج دائما بالغضب والتمرّد وإعادة اختراع اللغة والكلمات، فشعره مشحون بالنزق، والتمزق، والتوتر.
ولم يقتصر الصيت والشهرة على نصوص “لن” الغاضبة والمتمردة، بل تتعداها إلى مقدمة نقدية/ بيان كتبه أنسي الحاج لديوانه، أوجز فيه عددا من القضايا الأدبيةبطريقة بلاغية معبرة، وكانت مقدمة أنسي تضاهي في شهرتها مقدمة ابن خلدون.
فقد تولّدت المقدمة منحماسة شاعر مفعم في الاحتفاء بشعر جديد، وتضمنت وعيا مبكراً بإشكالات ما تزالمستمرة.
وبمقدمته “الأنسية”، إن صح التعبير، شق أنسي الطريق أمام قصائده، ناعتا شاعر قصيدة النثر (أو نفسه) بكونه شاعراً “ملعوناً”، فالشاعر ملعون بسبب “كفاحه” لإشاعة الحريةبكل الوسائل، بما فيها تلك التي لا تتطابق مع القيم المسلّم بها عند الآخر، والآخر ملعون لمعاكسته الشاعر ومحاربته له.
- ·أنسي اليتيم:
عاش أنسي يتيما “مقطوع الرأس والقلب”، وظل يتيماً طوال حياته حتى بعدما أصبح جَدّاً. وكان يقول ان اليتيم “حتى لو أعطي “دون جوان” كل نساء الأرض، فلن يشعر بالشبع. ليس لأنّه “أزعر”، بل لأنّ في داخله صحراء مهما رواها الماء ستظل عطشى. وسيظل جائعاً طوال حياته. نحن الشرقيون خصوصاً، ربما لدينا جوع عاطفي يفوق الجوع الموجود لدى شعوب أخرى..كل إنسان منّا يتيم ونحن يتامى من الأساس، وليس اليتم أن يفقد الإنسان أبويه جسدياً. أحيانا يكونان موجودان فقط وجوداً جسدياً، وهو ليس وجوداً حقيقياً حين لا نرضع منهما الحليب الآخر أي الحليب المعنوي والعاطفي. نحن نتربى على فكرة الأسرة فلا نستطيع أن نحيا من دون الأم والأب. الأسرة هي معطف الروح، وإذا خلعها المرء أو شعر أنّ الأبوين مشغولان عنه سيشعر بالبرد”.
- ·الحب عند أنسي:
الحب عن أنسي هو إيصال الـ”إيغو” إلى عرش العروش، لأنّ الإنسان عندما يحب فهو يحب نفسه من خلال الآخر. فهو يحب نفسه من خلال الىخر الذي يبادله التعاشق. فمن يحب الآخر بهذا القدر يكون قد انتزع الإيغو الذي يشبه المسمار، ومن على القمة رماه في البحر، عليه أن ينقل الأنا من ضلوع الصدر الصغيرة ليرميها في الأنا الكبرى، عندها سيشفق على الفقراء، ويناضل مع البؤساء، ويحزن للمضطهدين ولا يتحقق هذا الشيء من خلال التظاهر بل بالإحساس بالوجع لدى الموجوع أشد من إحساس الموجوع نفسه، حتى لو لم يقدّر الموجوع هذا الوجع!
والإنسان الحر، وفق أنسي، هو غير المجذّر بشيء يجعله ثابتاً في مكان واحد، كالشجرة الثابتة في مكانها، وإذا انسلخ من مكانه، سيذبل وييبس كما تيبس الشجرة المقتلعة من جذورها. إذا اقتلعت الشجرة من التراب فمهما سقيتها بالماء ستيبس، وحتى لو تعرّضت لكل الهواء، فما دام عنصر التراب ناقصاً لن تحيا. لذا الحب هو الماء والهواء والنار والتراب هذه العناصر مجتمعة. وفي إحدى قصائده قال إنّ الحرية أجمل من الحب، فالحرية أكثر راحة من الحب فلا غيرة ولا ما يشبهها!
- ·أنسي الخائف:
عاش أنسي أكثر من ميتة في حياته، ولذلك كان يرى أن الخوف هو من أكسبه إنسانيته، و”لولاه لشطح في غروره وفي وهم القوة التي تغنى بها نيتشه، نبي الدعوة إلى القوة، ولشعر أن القوة التي لديه هي نوع من خداع النفس، بينما حقيقة الأمر أنّه مدمّر من ملايين الجهات في ذاته، وقد أوجد هذه الطريقة ليستقوي بها على آلامه، لأنّ هذه الطريقة تعتبر حلاً من الحلول، وفي فترة من الفترات طبق هذا الحل على نفسه ودعا إلى الضحك حتى وإن كان مصطنعاً. ثم وجد أنّ هذا الوضع غير صحيح وأنّه ليس كذلك لأنّه لا يستطيع أن يكون كذلك، فأبسط الأمور تجرحه، فقد كان يستعين بخشبة الخلاص الإصطناعية في الوقت الذي لم يكن يمتلك سواها”.
فوهن الحرية، أو الخوف، عند أنسي، موضوع طويل، ولذلك يقول: “لقد بدأت (كتاب لن) بكلمة “أخاف” وأنهيت آخر قصيدة بكلمة “حرية”، أي أنّني لا أريد غيرها لأنّه لا يوجد غيرها”.
ولم يخف أنسي من القتل أو الموت، ليس بفعل شجاعته بل “لانتهاء مخزون الخوف عنده، فلم يبق عنده خوف، صار شجاعاً، ويائساً. توقف عن الكتابة والعمل عام 1976، إبان الحرب في لبنان، واعتبر أن الصحافة انتهت بمجرّد أن دخل الجيش السوري إلى لبنان. تحدث عن الأشياء كما هي لأن التاريخ كتبها ولم يعد قادرا على أن يخاف، “ما عادت تحرز انو نخاف، والرصاصة أكثر راحة من المستشفى، ورصاصة أو رصاصتين ثم أصبح شهيداً!”.
- ·عن الخيانة الزوجية:
امتلك أنسي جرأة الاعتراف بخيانة زوجية، كان لايفضل الحديث عنها، لأنها كانت تؤلمه كثيراً وتشعره بمدى “حقارته” حينها، كما تشعره بعدم جدوى الخيانات كلها. لأن الحب يطهّر، وحيث يكون الحب يكون الغفران والفضيلة والأخلاق، فالحب قربان ولا فساد فيه. وهو يقول انه “ليست كل الخيانات ناتجة عن حب للأسف، أحياناً تكون على حساب الشخص الذي تحصل الخيانة معه وليس فقط على حساب أمانة النفس والزوجة، فأنا لم أكن أسعى سوى وراء هدف عابر وغالباً ما تدفع المرأة الثمن”.
لم يشعر أنسي بالندم فقط جراء تلك الخيانة، “إنما بتفاهة هذه الأمور التي كان سببها الأساس الضجر والهروب إلى الأمام وسطحيّة القرارات التي يتخذها المرء والتي هي بمثابة سقطات وليس أكثر، ليس بالمعنى الإجتماعي، إنما بمعنى خيانة الذات، فخيانة الذات هي الأساس. أصعب شيء، وأجمل شيء أن يتصرف الإنسان وفقاً لطبيعته، وأن تكون طبيعته جميلة، فإذا كانت طبيعته شريرة وتصرّف على أساسها سيكون مجرماً.. كنت أهرب إلى الأمام”.
- ·عدسة النقد العمياء:
لم يُدرس شعر أنسي الحاج دراسة تحت عدسه النقد الحقيقيّ إلى اليوم، وليس ثمة مبالغة في قول ذلك، ولذلك بقي شعره على هامش “الحركة” النقدية المرتهنة لتطرفين نقديين: مدح مفرط أو قدح هدام، وما شذ عن هذين، لا يؤسس لبناء نقديّ مستقل بذاته.
ولم يلتقط معظم نقّاد شعر أنسي فرادة هذا الشاعر، بل إن الكثيرين ألحقوه بـ”مدارس” مختلفة، وإنْ كان ذلك لإظهار بأنه شعر هجين. بل عمد بعضهم إلى القول إنه سليل المدرسة الفرنسيّة لقصيدة النثر.
إن فرادة أنسي الحاج (شعراً ونثراً) تكمن في كونه عاش دوماً على التخوم، ما جعله عصيّاً على التصنيف. فتأرجح دوماً بين الهوامش: الروحانية، التمرد، التصوف..
ففي ثنايا ديوان “لن”، نجد روح قصيدة النثر وعمودها الفقري النظريّ. فكتب أنسي مقدّمته الشهيرة بإدراك عميق ومقصود من قبله أنّه يؤسّس لنمط شعري جديد. وللمفارقة، يمكن القول أن تلك المقدّمة عاشت عمرا أكثر من القصائد المصاحبة لها؛ إذ لا تزال مقدّمة “لن” هي البيان الأكثر تماسكا والأشد توازناً ووضوحاً لقصيدة النثر، حتى بعد مرور أكثر من ستة عقود على كتابتها.
كانت قصائد أنسي ابنة لزمن كتابتها، بينما كانت المقدمة النظرية ابنة لزمن قادم. وقد كان أنسي مدركاً لهذه المسألة، برغم نفوره من التنظير الشعري.
ولذلك، كان أنسي متقدّم على نقّاده بمراحل ومسافات بعيدة. كان شعر أنسي (ونثره) أعمق من الكلام المركب في المقالات والدراسات “شبه النقدية” التي تحاول مواكبة شاعرية ونثرية المبدع.
ولا يمكن فهم شعر أنسي دون المحاولة المثابرة لفهم صورة المرأة لديه، فهي تعدّ “الثابت” الأبرز في شعره، وإن ظهرت بصور متعددة ومتناقضة في كل قصيدة جديدة؛ فهي القديسة حينا، والعاهرة حينا آخر، ولعل تغيّر هذه الصور كان السبب الأكبر في تهمة “الغموض” التي نسبت إلى أنسي، والسحر يكمن في الغموض دائما.
- ·أنسي يؤبن نفسه:
تنبأ أنسي من العام 1960 بمرض السرطان، وذلك فيمقدمة ديوان “لن”، وبرحيله كتب رواية موته دون حبر.
والمفارقة، أنه قام شخصيا بمراجعة مواد، كتبت عنه بصفة الراحل، فقد انتهى، قبل موته، من إعداد مقدمة ملفّ في صحيفة الأخبار اللبنانية أعد في رثائه، بعد أن نهش المرض الأكول جسده، فأضحى مهيضا حدّ العطب، والهلاك المستعصي على البقاء.”
بين اليتم والخوف، والتمرّد والفوضى، عاش أنسي الحاج حياة مديدة، بقي خلالها متفرّداً وموشوماً بلعنة مجايليه، ومرجوماً بحجارة المحافظين السلفيين على القصيدة التقليدية.
أخيرا، سحبت الحياة بساطها من تحت قدميه، رغم أنه بسط للحياة ألف معنى ومعنى، بل وكان محرضا عليها، عاش حيوات كثيرة، ضاحكا، وعاشقا، وباكيا، ومتبرما، متواضعا، صلفا، قديسا، ملعونا.
ورغم أن قليلين وقفوا على شعره ونثره وماكتب من نصوص، فإن الكثيرين سيقفون حائرين بلا أنسي الحاج الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لأكثر من نصف قرن، لقد صُنع أنسي من طينة مختلفة مغايرة عن سائر المخلوقات والشعراء والناثرين، ومات نبي قصيدة النثر، بلا حواريّين أو أتباع من حوله!.