بالتاكيد كان “مطبخ القرار” يراقب عن كثب تطورات الأمور في درعا، بعدما كشف داعش، للمرّة الأولى، عن وجوده في بعض المناطق هناك، ما أدى إلى صدام بينه وبين فصائل من “الجبهة الجنوبية”، القريبة من الأردن، واشتركت معهم في قتاله جبهة النصرة وحركة أحرار الشام، في ريف درعا الغربي.
أبرز الفصائل التي اعتُبرت موالية لداعش هي كل من لواء “شهداء اليرموك”، الذي بايع العام الماضي تنظيم داعش، وكان يُظنّ أنّ المسألة تأتي في سياق المناكفة فقط مع النصرة، حتى تبيّن أنّ التنظيم بالفعل “تدعشن”، والفصيل الثاني المهم هو كتيبة المثنى الإسلامية، وهي كتيبة معروفة بانتمائها إلى “حقل السلفية الجهادية”، فيما تبدو المؤشرات الأخيرة أنّها انحازت إلى تنظيم داعش وليس جبهة النصرة.
لو وقعت الاشتباكات الأخيرة والمؤشرات على “نمو” داعش في المناطق الجنوبية، قبل بضعة أشهر فقط، أي بعد التدخل الروسي، لكان ذلك دافعاً كبيراً للقلق الأردني، لكنه اليوم أقلّ تأثيراً وتهديداً للمصالح الوطنية الأردنية، لأنّ الجبهة الجنوبية عادت إلى التماسك، والفصائل الأخرى أمسكت بالمبادرة من جديد، والدعم الروسي السابق تراجع كثيراً، مع إعلان الرئيس بوتين سحب قواته من سورية.
خطر نمو داعش الحقيقي ارتبط بمرحلة “التدخل الروسي”، واتفاق أردني- روسي (جنتلمان) على الهدنة في الجنوب، ما دفع بأصدقاء سورية إلى توقيف دعم الجبهة الجنوبية، وتزامن ذلك – أيضاً- مع تغيرات كبيرة في الاستراتيجيات الدولية (الأميركية والأوروبية) تجاه الملف السوري، مع تراجع الرهان على المعارضة المعتدلة من جهة، وتحول الأولوية لقتال داعش بدلاً من إسقاط الأسد من جهةٍ أخرى.
تلك المتغيرات الدولية والإقليمية انعكست على الأوضاع في درعا، ما أثّر على تماسك الجبهة الجنوبية وهي أكبر فصيل عسكري للجيش الحرّ في المناطق الجنوبية، ويحظى برعاية عربية وأردنية، ما هدّد بتفكيكه، ثم جاء خرق النظام السوري للهدنة، وعدم الالتزام بالضمانات الروسية، والسيطرة على قرية شيخ مسكين، ليخلق مخاوف كبيرة وحالة “عدم يقين” تجاه الأوضاع في درعا.
انعكست نتائج الحملة العسكرية السورية على الأمن الوطني الأردني عبر ثلاثة أخطار محتملة؛ الأول تفكك الجبهة الجنوبية، والبديل هو داعش (كما ذكرنا سابقاً)، والثاني مئات الآلاف من اللاجئين، والثالث انتقال المواجهات المسلحة من مناطق بعيدة إلى الحدود الأردنية مباشرة.
التهديدات والمخاوف التي تولّدت عبر كسر الضمانات الروسية تركت “مطبخ القرار” في عمان في حيرة وشكّ تجاه ما يمكن أن يقوم به، فلا توجد هنالك نيّة للدخول في مواجهة مع الروس، وفي الوقت نفسه بدا واضحاً أنّ مقاربة “النأي بالنفس” غير مجدية في درعا، وأنّها مزّقت مقاربة “الوسادات الأمنية” التي كانت معتمدة سابقاً.
تراجع الدعم الروسي وتطبيق الهدنة العسكرية في درعا (ارتباطاً بمحادثات جنيف) خدم الأردن كثيراً، وأعطانا وقتاً مهماً لإعادة تقييم المرحلة الماضية، ثم جاء بروز داعش ليخدم الرواية الأردنية بضرورة دعم الفصائل المعتدلة، ودعمها لمواجهة التنظيم، لذلك هذا الظهور في الريف الغربي من المفترض أن يخدمنا أكثر مما يضر الأردن!
لماذا؟ لأنّه سبب مهم ورئيس يؤكّد على أهمية الدور الأردني في دعم الجبهة الجنوبية، للوقوف في وجه التنظيم، ويدفع بمطبخ القرار إلى أن يجلس على الطاولة في المرات القادمة، حينما يتم الحديث عن الوضع في سورية، فما يحدث في درعا أصبح يمسّ تماماً الأمن الوطني الأردني!
بالرغم من أن الفصيلين التابعين لداعش لا يستهان بهما، إلاّ أنّ النسيج الاجتماعي ما يزال غير متقبل لداعش، وعودة الدور الأردني ستحسم الأمور، فدرعا عادت خطّاً احمر أردنياً، ويتقدّم “مطبخ القرار” في عمان اليوم إلى تجاوز مقاربة “الوسائد الأمنية” السابقة نحو “اعتبار درعا جزءاً من الأمن الوطني الأردني”.