شمس بنما اللافحة/ عيسى الشعيبي

كثيرا ما تكون الحقيقة صادمة، لا سيما اذا أتت متأخرة، وكانت خارج التوقعات وكاسرة للمسلمات، الا ان هذه الحقيقة العصية على الإنكار طوال الوقت الطويل، تظل الضالة المنشودة للمؤمن والمحقق والقاضي على حد سواء، كونها الممر الاجباري لتوطيد الثقة بين الاصدقاء، وتحقيق العدالة امام القضاء، وبناء العلاقات السوية بين الناس، كما انها حجر الاساس بين الازواج، والشركاء في قطاع الاعمال، وحتى بين البائعين والمشترين، وكل اثنين بينهما مبادلات، او صلات رحم اوعمل او جوار.

ولعل ما بات يعرف باسم “اوراق بنما” كان احد تجليات هذه الحقيقة، التي تأبى الاختباء لأجل مديد، وكان أشدها مدعاة للصدمة، لما انطوت عليه ملايين الوثائق المسربة من اسماء كبيرة، وحسابات مصرفية ثقيلة، ظلت بعيدة عن الرأي العام وسلطات الضرائب والرقابة والاعلام والاستخبارات، الامر الذي شكل اوسع مفاجأة للمخاطبين بهذه الارتكابات المثيرة للدهشة والاستغراب، خصوصا لدى المجتمعات المتمتعة بالديمقراطية والشفافية، وليس لدى الدول التي لا حسيب فيها ولا رقيب على الحكام والمتنفذين والمشاهير.

وفيما شرعت العواصم الغربية المعنية، بفتح باب التحقيقات اللازمة في مثل هذه الحالات غير الشائعة كثيرا، لجلاء الحقيقة واستيفاء حقوق الخزينة (فرنسا مثالا)، عمد المسؤولون الفاسدون في دول العالمين الثاني والثالث، ممن يرون انفسهم فوق القانون، الى المراوغة المعتادة، فضلا عن النفي والانكار، بل مضى بعضهم الى حد استحضار المؤامرة الكونية الشائعة في خطاباتهم الممجوجة، لدحض التهم الموثقة، ودرء كل مساءلة محتملة، اتكالا منهم على ضعف ذاكرة الجماهير “الغفورة”.

على أي حال، فان هول ما كشفته تحقيقات اكثر من مائة صحيفة ومؤسسة اعلامية يعتد برصانتها، يعتبر بمثابة “تسونامي” سياسي، بدأت امواجه العاتية تضرب شواطئ بعيدة عن مركز الزلزال، وتجرف في طريقها كل السدود المرتجلة، بما في ذلك التشكيك بصحة المستندات، وتجاهل الوقائع الدامغة، والتذرع بالاستهداف المبيت، والتآمر على سمعة البلد والزعيم المحصن ضد الشبهات، وما الى ذلك من دفوعات هشة، لا تصمد امام حقائق تقلع العين البيضاء.

في مقابل ما أثارته هذه الفضائح من مشاعر خزي وحس بالعار، لدى المتورطين بها حصرا، ممن لفحت وجوههم شمس بنما الساطعة، وأوغرت في صدورهم تلاوة أسمائهم على الملأ، تستبد لدى الناس الطيبين نوبة  في ابداء روح التشفي، ورغبة عارمة بتسديد الحسابات المؤجلة، ازاء من كانوا يحسنون الظن بهم سابقا، ويصادقون على ما كانوا يقولونه لهم دائما، هؤلاء الذين فسدوا وتطاولوا على المال العام، وأثروا على حساب شعوبهم بغير وجه حق.

غير أن نفرا آخر من الناس، ممن كانوا يشمون الروائح الكريهة عن بعد، الا انه كانت تعوزهم أدلة الاثبات، ابتهجوا في قرارة انفسهم، وارتفعت رقابهم الى عنان السماء، حين تمكن أقران لهم في مهنة المتاعب الجميلة من كشف المستور/المعلوم، واستطاعوا بعد جهد حثيث، من وضع اليد على الحقائق المريرة، ونعني بهم ثلة من الصحفيين الاستقصائيين الممتازين( بعضهم عرب) الذين فضوا الاسرار ببراعة، وقدموا للرأي العام، وسلطات التحقيق، ما تعجز عن تقديمه أعتى اجهزة الاستخبارات.

اذ يحق الآن لمجتمع الصحافة والاعلام، الذي كان له الفضل في إحداث هذه الهزة غير المسبوقة في عالم السياسة والمال والاعمال، الا يداري بعد اليوم على شعوره العميق بالاعتزاز بالنفس، والحس بالثقة وجدارة الاستحقاق، بل وان ينظر الى صاحبة الجلالة بعين التقدير والاحترام، حتى لا نبالغ بالقول: له ان يرفل في بلاط السلطة الرابعة بثوب الفخار، كتفا الى كتف مع انداد له في السلطات الاخرى الثلاث، لا سيما أن هذا الكشف الاستثنائي له ما بعده بكل تأكيد.

وأحسب ان ما بعد “اورق بنما”، هذه الملفات التي تستحق تسمية اشد غنى من فقر هذا التعبير الباهت، لن يكون كما كان قبل اجتياز هذا البرزخ الفاصل بين اليقين والارتياب، وبين الخاص والعام، كون هذا الكشف الأكبر من نوعه في تاريخ العولمة وتكنولوجيا المعرفة الرقمية، يمثل نقطة تحول فارقة بين زمنين، يوسع بوبات عصر الشفافية، ويشي في الوقت نفسه بنهاية وشيكة لعهد الخصوصية، ناهيك عن فض الذرائع الملفقة والحقائق الملتبسة، وعواقب اللعب بمقدرات البلاد ونهب أرزاق العباد.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري