لا يجادل حتى أنصار تنظيم “داعش” بشأن المؤشرات والمعطيات الاستراتيجية والمهمة التي تشير إلى ضغوط عسكرية وأمنية غير مسبوقة يتعرّض لها التنظيم اليوم، ما أدى إلى جملة من الخسائر الفادحة التي مني بها خلال الأشهر الأخيرة.
الخسارات العسكرية البارزة تمثّلت في فقدانه الرمادي في العراق، وتدمر في سورية، مع سقوط مدينة القريتين مؤخراً في شرق حمص، وجزء من لواء هيت غرب الأنبار، مع حصار الفلوجة التي يتحصّن فيها التنظيم، ويدفع سكّانها ثمناً باهظاً للحصار الدامي لها، ما وصل إلى كارثة إنسانية حقيقية.
فقد التنظيم مناطق استراتيجية مهمة مؤخراً، وخسر بالتدريج أبرز قيادات الصف الأول لديه، في الأشهر الماضية؛ أبو مسلم التركماني، عمر الشيشاني، ولاحقاً أبو علاء العفري، وقبل ذلك -في بداية الصعود الثاني- قُتل كل من حجي بكر وأبو عبدالرحمن البيلاوي، وهما المهندسان الكبيران لعملية إعادة الهيكلة والبناء الداخلي وترسيم الاستراتيجية لدى التنظيم، الذي ذوى وتراجع منذ العام 2007 إلى العام 2010، مع بروز ظاهرة الصحوات في العراق، ليعاود لاحقاً في العام 2011 الانطلاق مستثمراً الثورة السورية واحتجاجات عشائر الأنبار في العراق على سياسات رئيس الوزراء العراقي حينها، نوري المالكي.
الخسارة الأكثر أهمية للتنظيم تتمثّل في الروح المعنوية والصورة الإعلامية التي خلقها بعناية شديدة، عندما ظهر كقوة مصفّحة مرعبة دموية، عبر أفلام الفيديو المرعبة والخطاب المتشدد، الذي تكفّل به أبو محمد العدناني، الناطق باسم التنظيم، والذي اختفى بدوره منذ 6 أشهر، أي بعد آخر خطاب له في تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وكان بعنوان “قل للذين كفروا ستغلبون”!
لماذا تراجع “داعش” وبدأ الانحسار؟! باختصار، لأنّ البيئة المحيطة به اختلفت تماماً. فالتنظيم برز في ظل حالة فوضى وتضارب للأجندات الدولية والإقليمية والمحلية، وقد استثمر تماماً في هذا المناخ الموبوء. وحاولت قوى إقليمية ومحلية استثماره لأهدافها السياسية والأمنية، فاغتنم الفرصة على أفضل ما يكون. كما وظّف عاملاً آخر لصالحه وهو الترهيب والتخويف عبر رسالته الإعلامية الصادمة، ما أضعف الخصوم وجعلهم يفرّون من أمامه تحت وطأة هذه الصورة المرعبة!
المشهد اختلف تماماً مع التفاهمات الأميركية-الروسية أولاً، وتقسيم الأدوار في العراق وسورية لمواجهة التنظيم عسكرياً، ومع تركيز الجهود على أولوية ذلك، والتحول في الموقف التركي، ما حجّم قدرة التنظيم على توفير الدعم الخارجي، والتدخل العسكري الروسي الذي أعطى قوة دفع كبيرة للنظام مؤخراً في مواجهة التنظيم في تدمر وريف حمص، والعين اليوم على دير الزور. والحال كذلك في العراق بالنسبة للأميركيين، الذين ضبطوا دور “الحشد الشعبي” ضمن أجندتهم، ومنعوا حالة التضارب التي حدثت سابقاً مع قاسم سليماني.
يقف فوق رأس التلّة بين هذه العوامل السبب البنيوي الذاتي؛ فالتنظيم ليس “ابن عيشة” على المدى الطويل، لأنّ أيديولوجيته تحمل بذور فنائه، فلا يمكن أن تعيش طويلاً. والمجتمع السُنّي العراقي نفسه يشعر اليوم بثمن باهظ على أكثر من مستوى دفعه بسبب التنظيم، ولو كانت له بدائل أخرى ممكنة اليوم لسرّع في تراجع هذا التنظيم.
كل تلك الأسباب مطروحة وفاعلة ومهمة، لذلك فإنّ التنظيم تراجع وانكمش. وإذا استمرّت الظروف الراهنة، فإنّه في الطريق إلى الانحسار. لكنْ هل يعني ذلك تلاشيه تماماً وخروجه من المشهد، وانتهاء تلك الحقبة التي أصبح فيها “بعبع” العالم؟
دعونا نؤجّل النقاش في هذا الموضوع إلى مقال يوم غد.