أنشئت الهيئة المستقلة للانتخاب العام 2012، كأحد مخرجات التعديلات الدستورية التي جاءت نتيجة مباشرة للاحتجاجات التي جرت في مناطق عدة من الوطن العربي، وفي الأردن أيضا. وقد سمى كثير من الناس هذه الاحتجاجات “ربيعا عربيا”، وتوقعوا أن تؤول إلى أنظمة ديمقراطية بين ليلة وضحاها. فيما سميتها أنا “يقظة عربية جديدة”، تمثل مرحلة أولى من طريق طويلة وشائكة نحو الديمقراطية.
الهدف الرئيس المفترض من “الهيئة” إنهاء سيطرة السلطة التنفيذية على الإشراف على الانتخابات، لاسيما وزارة الداخلية ومؤسسات أخرى لعبت أدوارا في الماضي أثرت على نتائج صندوق الاقتراع، باعتراف السلطة التنفيذية نفسها. وجاء قانون “الهيئة” ليحدد مدة عمل أعضائها بست سنوات، ويحصنها من الحكومة -أي حكومة- حتى يقتنع الناس باستقلاليتها كما اقتناعهم اليوم باستقلالية البنك المركزي مثلا، والتي تعتبر أساسية لسياسة نقدية ناجعة في المملكة.
بغض النظر عن شخوص أعضاء “الهيئة” ماضيا ومستقبلا، وكلها شخصيات محترمة ومقدرة؛ فإن قانون “الهيئة” ومدة عمل أعضائها يفقدان الكثير من معناهما حين يتم تغيير رئيس وأعضاء الهيئة ثلاث مرات خلال أربع سنوات. فهنا يصبح من المشروع أن نسأل: كيف تختلف “الهيئة” اليوم عن أي دائرة حكومية أخرى، حين لا يمنع قانونها السلطة التنفيذية من الطلب من أعضائها استقالة جماعية تتم هكذا بسرعة فائقة، بل ومن دون أن تكون لأعضاء الهيئة فكرة واضحة من أي جهة جاء هذا الطلب؟
كيف لنا أن نرسخ لدى الناس مفهوم استقلالية “الهيئة” كما فعلنا مع البنك المركزي، بينما تقوم السلطة التنفيذية بتغيير أعضاء “الهيئة” وقتما تشاء، ومن دون إبداء الأسباب؟ ما هو تعريف استقلالية “الهيئة” لدى السلطة التنفيذية؟ وما معنى قانونها حين لا تلتزم السلطة التنفيذية بروحه وبالهدف الأساسي منه، وهو تعزيز الاقتناع باستقلالية “الهيئة” لدى العامة حتى، وإن التزمت بنصه (القانون)؟ هل المطلوب، وأنا أجد نفسي مضطرا مرة أخرى لاستخدام المصطلح، إصلاح تجميلي أم إصلاح فعلي يحقق استقلالية “الهيئة”، ويقنع الناس أننا جادون حقا في السير المتدرج والحقيقي نحو تطوير مجالس نيابية تحقق مبدأ الفصل والتوازن الذي طالما دعا إليه جلالة الملك؟
تونس سنّت أيضا قانونا مشابها، أنشات بموجبه هيئة مستقلة للانتخابات بعد الثورة التونسية. وكان لي شرف المشاركة في المراقبة الدولية على أول انتخابات تشريعية أجريت هناك، في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. وأول ما استوقفني وقتئذ أنه بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين الأحزاب الـ116 التي خاضت الانتخابات، والملاحظات والاعتراضات الكثيرة منهم على كل شاردة وواردة، إلا أن أيا منهم لم يشكك، لا صراحة ولا تلميحا، باستقلالية “الهيئة”، ما أنتج قناعة واسعة أن الانتخابات كانت نزيهة بالمطلق. ذلك أن القانون التونسي يحدد كيفية اختيار أعضائها بطريقة تعزز استقلاليتها؛ إذ يمنح المجتمع المدني والنقابات والهيئات المنتخبة الدور الأكبر في اختيار أعضاء “الهيئة”.
أدرك أن الطريق طويلة في الأردن نحو الانتقال الديمقراطي الذي يلبي طموحات جلالة الملك والغالبية العظمى من المواطنين. وأقبل أن هذا يتطلب تدرجا في أي عملية تحولية؛ وهو ما دفعني إلى تأييد قانون الانتخاب الجديد رغم المآخذ الكثيرة عليه. لكنني أطمح، كما الكثيرون، إلى أن أرى إشارات من السلطة التنفيذية تعطينا الأمل بأنها ملتزمة بروح العملية الإصلاحية، وأنها جادة في إرساء القواعد والأسس -ومن أولاها استقلالية الهيئة المستقلة للانتخاب- التي تضعنا على السكة الصحيحة نحو الهدف المرجو.
إن كان لدى السلطة التنفيذية سبب وجيه لكل هذه التغيرات السريعة في “الهيئة”، ومعاملتها كأي دائرة حكومية أخرى، فليتها تشرح للمواطنين والمواطنات ذلك؛ وإلا فستبقى علامات سؤال كبيرة حول استقلالية “الهيئة”. نريد أن نقتنع بجدية التوجه؛ ساعدونا.