الشاعر لؤي أحمد يرثي شهيد الوطن معاذ الفارس

m3az-fars99000

عروبة الإخباري –

خللٌ أصابَ القلبَ يا معاذ

“أوقفوا الساعاتِ كلَّها/ اقطعوا خطوطَ الهاتف/ وعلى أعناق الحمامِ الأبيضِ اربطوا شارةَ الحداد/ دعوا الطائراتِ تحوّمُ فوق رؤوسنا وتنوح/ مغبّشةً صفحةَ السماء برسالةٍ مفادُها: لقد مات”.

(وهل يموتُ الذي كان يحيا؟).

مُعاذ…..

على أعتاب نيسان صدّقتُ الموت يا ابن عمي، فقد كان(يلاحظني من حيثما أتلفتُ)، (ومن ذا الذي مما قضى الله يفلتُ)، (وأي امرئٍ يدلي بعذر وحجة، وسيفُ المنايا بين عينيه مصلتُ؟)، وعلى عتبة الموت أكاد أسمع صوتك يصرخ بي (وما جزعي من أن أموت، وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقتُ، ولكنّ خلفي صبيةٌ قد تركتُهم، وأكبادهم من حسرةٍ تتفتتُ).

ما كنت أحسبُ أن العمر سيمتد بي كي أرثيك أو أواسي أباك، لكنك بت تعلم يا ابن عمي وابن أمي أن (خُطايَ كانت أقصرَ مِن خُطاك)، كنا -أنا وأنت- مثل ضدين على طرفي نقيض، واحدٌ -هو أنا- يتدرب على الموت منذ الصغر، وآخر -هو أنت- لا يجيد سوى الحياة، أدرت أنا ظهري للموت فأجّلني، ونصبتَ أنت له وجهكَ فاجتباك، فقل لي يا طري العمر: ما الذي أغرى الموت بك؟ وكيف اهتدت أحابيله إليك؟، صعدتَ صعدتَ يا ابن الغيم في زمن السقوط، حُرا كما تريد، حرا وحرا من كل قيد تألفه العبيد، صعدت إلى حيث التراب الطهر يُعلي النشيد، وبقيتُ أنا ملقىً على جسدٍ يتجرع كأس غيابك المباغت ويدري أنك حيٌ لا تموت.

لست أرثيك إذن يا معاذ، فماذا تفعل القصائد الجوفاء أمام عظمة الشهادة؟، وأي لغة كسيحة تقف على قدميها لتُطاولَ طائرا وهو في طريقه إلى الله؟، هو حديث الفقدِ يا ابن قلبي، عيوني التي تقف مدافعةً عن حقها في البكاء، نجوايَ التي وددت لو أنك أفلتَّ من مخالب الموت لأُسمِعك إياها قبيل الرحيل، أنين بيوتنا حين تسودُّ عند كل رجوع أخير.

على موعد مع الأرض جئنا يا ابن عمي شماليين من غير سوء، غير أنك ولدت هناك في الرابية (الأشرفية) حيث السماء أقرب ما تكون إلى الأرض وأبعد ما تكون عنها في آن معا، قمم تزاحم مناكب السحاب، ووديان تداعب بأناملها أحشاء الأرض السحيقة، وولدت أنا في السهل (حوران) حيث المدينة وصخبها وكتلها الإسمنتية تعصف بالروح وتجعلك إلى الآلة أقرب منك إلى الإنسان. ولأن الطبائع بناتُ الطبيعة؛ أخذت عيناك من زيتون (الأشرفية) خضرتها، ومن عيون الماء انثيالها، وشببت عن الطوق شفيفا كما الورد، بسيطا كما الخبز، عالياً كما الحرية، أما أنا فقد لوحتني تربة (اربد السمراء)، وأورثني صخب المدينة نزق الطيور في الأقفاص، والتوتر والقلق الدائميْن، اختار كل منا طريقا غير تلك التي اختارها الآخر، شبعت أنت من الأرض المفتوحة على الفضاء، فاخترت أن تكون نسرا يلاحق الغيمات في الأفق، واختنقت أنا تحت سقوف المدينة، فهربت إلى الشعر والأدب، أطير إلى فضائي الذي أحب على جناحي المخيال والبلاغة.

كيف لا يا صاحبي؟ كيف لك أن لا تختار هذه الطريق وانت ابن أبيك وحفيد جدك وأخ لأخيك؟ كيف لا وأنت سليل القهوة المرة، والنار التي ما خمدت في الروابي المطلة على فلسطين؟

كيف لا وأنت لا تسمع في (تعاليل) أهلك المسائية إلا أحاديث الفداء وذكريات العسكر وأسماء وصفي وهزاع ومشهور وكاسب وراتب وفراس وموفق.

وكيف لي ياصاحبي، وأنا ابن اربد، ألا يفتنني عرار؟، ذلك الذي يرقد في التل وتحته ألف قصيدة معجونة بماء الحياة والصعلكة النبيلة؟، وكان لي أن أنشأ هشاً بما يكفي لأكتب القصائد الموزونة، وكان لك أن تنشأ صلدا بما يكفي لتطير في مركبات الموت والحديد والجنون.

مجنونان أنا وأنت لكن كلٌ على طريقته: شاعر مسلّح وطيّار مجنح.

خذ شعريَ كله يا ابن عمي وأعرني جناحيك، فقد كان دمك أبلغ من دواويني كلها، وكان صعودك قصيدتك اليتيمةَ التي كُتبت بماء الذهب وعُلّقت على جدار التاريخ.

خذ كل دمعي وقل لي يا معاذ: ماذا رأيت حين هوى الصقر من عليائه؟ هل فتنك شيح صحرائنا فنزلت لتطبق عليه جفنك؟ أما أنه الحنين إلى تراب كنت تبادله التحية في الطوابير العسكرية كل صباح؟.

أدري أنه الوطن يا زينة شبابه، عشقٌ وضريبةُ عشق، تماهيت مع سميك معاذ الأول واتحدتما في الحلم والمصير، وسبقكما وسيلحق بكما على درب التراب الحر فتيةٌ آخرون فهذي الأرض ولّادة والنقيصة فيها عاقر.

هيأت لك أرض الأشرفية نفسها كي تستريح قليلا يامعاذ، ورفض رفاق السلاح إن يُكتب فوق شاهدة القبر (ها هنا سقطت ريح عن الفرس)، رفعوك على أكف الرياح، وحمّلوك سلامهم لمن مضى منهم إلى الله على وعد باللحاق. ستذكرك يا معاذ طرقات القرية وبساتينها ووديانها، وسيحفر فتيانها اسمك على لحاء الشجر وخدود الدحنون، والنشميات سيخبئنك في دفاترهن أيقونة للرجولة والشهامة والفداء، ستفتقدك (التعاليل) والدبكات وليالي الصيف التي لا تنام، وسيرثيك، يا معاذ، تجار المناسبات وسماسرة الأوطان، وسيشترون باسمك شعرا ركيكا وخطبا خرساء، وسيسمون باسمك شارعا أو ميدانا، وحدهم القابضون على جمر المحبة والوطن سيبكونك حتى القيامة، وسيفخرون بك، وسيدفعون أبناءهم ليكملوا سيرتك الناقصة، وسيردد طلاب المدارس كل صباح في الطوابير المدرسية قول حسّان قائد جيش بني أمية:

إذا قيل خيل الله يوماً ألا اركبي

ودَدْتُّ بكفِّ الأردنيِّ انسيالها

أما أنا:

فلن أحضن أباك (عمي) كثيرا، وسأشيح بوجهي عن عيون أمك وعيون رنا وبنان، سأتجنب الحديث إلى طارق وزياد وعمر وعبد الله، سأنتحي جانبا وأحضن ابنك هاشم وأشم فيه رائحتك وأهمس بأذنه: أبوك مات يا ولدي لأن خللا أصاب القلب جراء جرعة زائدة في حب الوطن.

تُنعى يا معاذُ ولا تُنسى…..

تنعى وتبقى

شقيقَ السحاب وإلف الثريا

ونارَ التراب وماءَ الغيوم وصقرا أبيا

سلامٌ القُرى يا معاذ سلامٌ عليكْ

سلامٌ على النجم يعلو ذرى كتفيكْ

سلامٌ على دمعة حُبست في حقول التعبْ.

سلامٌ على النار تُذكي عروق الغضبْ.

سلامٌ على الغيم حين تفيض الخوابي

سلامٌ على مسحة الحزن فوق الروابي

سلامٌ على روحك الآن في الصاعدينْ

سلامٌ على قبرك الطهر في كل حينْ.

شاهد أيضاً

جَنينُ قلبي

عروبة الإخباري – زينة جرادي جَنينُ قلبي قطفتُ نجمًا أزاحَ عتمَ ظلامي فنامَ في حِجري …

اترك تعليقاً