إيران وحدها، أكثر من سواها، تعرّف ما عنته «عاصفة الحزم» عندما هبّت قبل عام. كان أتباعها في بغداد وبيروت والمنامة والكويت وأماكن اخرى، وفي بيئة الحكم الايراني و «الحرس الثوري» لا في عموم ايران، يتتبعون لحظة بلحظة تقدّم الحوثيين وعسكريي علي عبدالله صالح في أرجاء الجغرافيا اليمنية، مشدودين الى الشاشات والراديوات ذات يوم مطلع شباط (فبراير) 2015 للاستماع الى «اعلان دستوري» حوثي من القصر الجمهوري في صنعاء، وأبرز ما فيه «حل البرلمان وتشكيل مجلس انتقالي ومجلس رئاسي موقّت»… كان ذلك إشهاراً للانقلاب، بعد استتباب السيطرة على مختلف المناطق. بعد أقل من أسبوعين خرج الرئيس عبد ربه منصور هادي من مكان احتجازه في صنعاء حيث استُقيل ليظهر في عدن معلناً العودة عن الاستقالة، وبدأ الحوثيون سلسلة محاولات لتصفيته، وراحت الغارات الجوية تطارده حتى مساء 25 آذار (مارس). في اللحظات الأولى من فجر 26/3 بدأت نهاية أوهام الحوثي – صالح، كذلك نهاية حلم «العواصم الأربع» الايراني.
كانت المفاجأة السعودية حاسمة وصاعقة، بمقدار ما كانت الطلعة الأولى لطيرانها تنهي ثلاثة عقود ونيّف من الصبر والصمت على جارٍ اقليمي (ومسلم، اذا كان هذا يعني شيئاً!) بلغ صلف تدخّلاته حدّاً يفوق أي وصف، فهو لا يتورّع عن زعزعة الأمن والاستقرار، ولا يرضى بأقل من فتنة تعمّ الجوار العربي الأبعد فالأقرب ليوطّد ما يسمّيه نفوذاً أو هيمنةً أو سيطرةً. لم تخفِ الرياض أنها كانت مكرهةً في سلوك خيار حربي ليس في تقاليدها ولا في أولوياتها، وبالنسبة الى اليمن واصلت حتى عشية الانقلاب الحوثي تواكب حوار الأطراف اليمنية من خلال مجلس السفراء العشرة في صنعاء، مشجّعةً على انجاحه، رغم اقتناعها بأن ما توصّلت اليه «جماعة ايران» لم يعد يسمح لها بالعودة الى الوراء. ولم تشأ الرياض أن تذهب وحيدةً الى هذه المواجهة فكان «التحالف العربي»، رغم أن بعض أعضائه لم يسبق أن أبدى وعياً كافياً بخطورة تدخلات ايران أو اتخذ مواقف علنية واضحة ضد سياساتها التخريبية وميليشياتها الطائفية وما تسببت به من جرائم في العراق وسورية ولبنان.
بين السيناريوات المضادة التي طُرحت أن تردّ ايران بالمثل، فـ «الورقة اليمنية» مهمة ومحورية في مراهناتها ولم تتحسّب لإمكان خسارتها على هذا النحو من دون ان تتحرّك، لكنها لم تفعل. لم يضطرّها الاستحواذ على بغداد ودمشق وبيروت لأن تقاتل بقواتها، فهي قدّمت المال والسلاح و «الخبراء»، واعتمدت على الأتباع من أنظمة وحكومات وميليشيات لاختراق تلك الدول، ولوهلة بدت التجربة اليمنية الاختراق الأعمق والأنجح ولو أن الحكومة الشرعية واصلت الرضوخ لخدعة «اتفاق السلم والشراكة» لكانت السيطرة على «العاصمة الرابعة» – صنعاء وعموم اليمن الأقل كلفة في مشروعها. ثم أنها كانت تعيش ربع الساعة الأخير من استراتيجية التفاوض مع القوى الدولية لإبرام الاتفاق النووي والتخلّص من العقوبات، وبالتالي لم تكن في مزاج الانخراط في حرب من شأنها أن تعطّل المفاوضات. كانت المفارقة واضحة يوم 14 تموز (يوليو) 2015: طهران تحتفل بتوقيع اتفاق فيينا على أنه «انتصار»، و «التحالف العربي» يعلن استعادة عدن وعودة الحكومة الشرعية اليها.
اهتزاز «الورقة اليمنية» في يد إيران، وخسارتها لاحقاً، ألقيا ظلالاً من الشك على مستقبلها في «عواصمـ»ـها الثلاث الاخرى. فتحالفها الانتهازي مع بشار الاسد وتحالفها الطائفي مع «حزب الدعوة» العراقي والتقاء المصالح والأجندات بينها وبين تنظيم «داعش»، وإرهاب «حزب الله» في لبنان، قد تصطنع نفوذاً لكن لن يدوم إلا بإدامة الصراعات. وقد برهنت ايران ما لديها، فاستخدمت «داعش» لزرع الفتنة في المنطقة، ولم يكن لتدخّلها في سورية سوى نتيجة واحدة هي تهديد وجود سورية، وكان دورها حاسماً في منع قيام الدولة في العراق واستدراجه الى التقسيم، فيما يُشهر حزبها «اللبناني» سطوة سلاحه ماضياً في تنفيذ خطة علنية لإلغاء الدولة اللبنانية.
ثمة فارق كبير في الدوافع والأهداف والوسائل بين التصورين السعودي والايراني للعلاقة مع اليمن، قبل الحرب وبعدها، وكذلك مع سورية والعراق ولبنان. فالنهج الإقصائي بارز وعلني عند طهران، وقد مارسته مباشرة وفي مراحل مختلفة في البلدان الثلاثة، فمَن لا يرضخ لهيمنتها لا يتقبّل سلطة الولي الفقيه، لذا فهي لا ترى مصلحتها إلا في إبعاده عن المشهد بالاغتيال أو بالتهديد. أما الخلافات فلم تحل دون أن تتواصل الرياض وتتحاور مع مَن ليسوا على توافق معها أو مَن يحاربونها، ومنهم الحوثيون مثلاً، وليسوا وحدهم. وكانت لديها مبادرات متكررة للدفع نحو مصالحة وطنية عراقية ولم يُسجّل لطهران سوى إنها ألغت المصالحة من أجندتها العراقية. وتعدّدت مساعي السعودية لتغليب التهدئة بين سورية ولبنان رغم الشروط غير المعقولة لنظام دمشق، ولم تقرر دعم المعارضة السورية إلا بعدما تبيّن للعالم أن لا خطط لدى النظام غير مواصلة القتل كوسيلة وحيدة للحكم. وليست مجرد صدفة أن السعودية والحكومة اليمنية أرادتا وتريدان الآن حلاً سياسياً في اطار الشرعية، أما ايران وأتباعها فلم تُعرف لهم أي مبادرة سلمية حقيقية في أي بلد.
لم تتكشّف بعد خلفيات المفاوضات النووية التي حصلت ايران في سياقها على تسهيلات وتنازلات أميركية حمت تدخّلاتها الخارجية ومكّنتها من تعميق اختراقاتها للدول المستهدفة، لا سيما في اليمن. فهذه الخلفيات هي الوجه الشرير للاتفاق النووي وليس نصّه، لأنها صنّعت ظروفاً موبوءة أتاحت لإيران وأتباعها أن يتحركوا كيفما يشاؤون متمتّعين بصمت اميركي مدوٍّ. وبنهجٍ متهاونٍ كهذا غلّبت فيه واشنطن التغاضي على الصرامة فأمكن للحوثيين لمس هشاشة قرارات الأمم المتحدة وضعف المبعوث الأممي (السابق) المخوّل انجاز حلّ بالتوافق معهم، عملاً بتقليد اميركي يعتمد على أي قوة سياسية أو عسكرية تفرزها الأحداث («الاخوان» في مصر، الميليشيات الاسلامية في ليبيا…) بمعزل عن كفاءتها ومدى قبولها داخلياً. ولذلك كان على «عاصفة الحزم» أن تشق طريقها في بيئة دولية غير مواتية، اذ كانت العواصم تستعد للانفتاح البزنسي على طهران وتحاول إيجاد مكان لها على هامش التقارب الاميركي – الايراني.
لكن أخطر التساهلات الاميركية على الاطلاق كان ولا يزال تجاهل الدور الايراني في تفعيل الارهاب، بل استناد طهران الى ادّعائها البراءة منه والى السكوت الاميركي لتبثّ عبر أبواقها اتهامات مبرمجة للسعودية ودول خليجية اخرى بتمويل ودعم «الارهاب السنّي». تقبّلت واشنطن على الدوام واقع احتكار ايران «الارهاب الشيعي» وادارته، وحجبت كل ما تعرفه عن الارهاب الذي استهدف جنودها طوال فترة احتلالها للعراق، بل فاوضت ايران على تقاسم النفوذ فيه. الأسوأ أن اميركا تتجاهل الآن ما تعرفه عن الجهود السعودية في مكافحة الارهاب. ومنذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كانت اسرائيل ثم ايران الأكثر استخداماً للتصنيف «السنّي» للارهاب، للتغطية على كونهما دولتين تمارسان «ارهاب الدولة» لتحقيق أهداف مخالفة لأي قانون دولي. والمفارقة أن أميركا تحمي الارهاب الاسرائيلي بدعم مطلق، وتحمي الارهاب الايراني بصمت مطبق. لكن الوثائق والشهادات الاستخباراتية التي كُشفت في المحكمة الاميركية تعطي فكرة واضحة عما تعرفه واشنطن وتصرّ على حجبه.
هذه هي المعركة التالية التي يجب أن يتصدّى لها نهج «عاصفة الحزم»، ولعل «التحالف العربي – الاسلامي ضد الارهاب» هو البداية. فكم هو منطقي وطبيعي أن تكون ايران وأتباعها خارج تحالف جدّي يريد أن يعمل، من دون أن يتعرّض للتخريب من داخله. وهذا التحالف فرصة في اتجاهين: فرصة لاميركا أولاً لتخرج من التصنيفات الدينية للارهاب، وفرصة لـ «عاصفة الحزم» كي تستكمل أهدافها بحصر الارهاب في بؤرته وبكشف العصابات الاجرامية التي توظَّف لممارسة القتل الوحشي باسم «اسلامٍ» لا يعرفه أحد غير ايران واتباعها.