الاختلاف بين الناس من ضروريات البقاء على كوكبنا، ومن دونه ما كان للأرض أن تُعمَّر، ولا للبشرية أن تتقدم، ولا للحياة أن تستمر.
الاختلاف بيننا كبشر لا يقتصر على الجنس واللون والسن، أو القدرات والمهارات والثقافات، أو العقائد ونمط الحياة البيئية والاجتماعية فقط، لكنه تعدى ذلك إلى الفكر والتوجه، وهذا هو الاختلاف الخطر الذي يشبه سكيناً ذات حدين، طرف منهما يقطع ما فسد من توجهات لم تعد صالحة للزمان أو المكان الذي نعيش فيه، لذا هي تبتر جزءاً منها، لينبت فكر جديد من جذر شجرة تقاليد المجتمع نفسها، ولكن على غصن العصر الذي نعيش فيه، وهنا لا مشكلة، فالثمار اليانعة ستشبع الوطن والمجتمع تقدماً، يسمن رقيها، ويغنيه من جوع الحاجة إلى الاستعانة بما عند غيره من قدرات، وكما قلنا، هنا لا وجل، فالخوف يكمن في طرف السكين الآخر، فهو الأكثر شراسة وحدة، فخطورته تكمن في آلية عمله التي برمجها الجهل على منطق إن لم تكن معي فأنت ضدي، وإن لم تقتنع برأيي، فأنا وأنت في حرب شرسة لا هدنة فيها، ولي مطلق الحرية في استخدام أسلحة إبادة شاملة لسمعتك وشرفك وعقيدتك، وقد أستبيح دمك في لحظة تحالف شيطانية كضربة قاضية أنتصر فيها لفكري وتوجهي، والأخطر من هذا كله أن يكون مقبض السلاح المستخدم – قال الله ورسوله – وهو عز في علاه تنزه عما خالف به السفيهون منهج رب السلام ونبي الإسلام.
ولأن التربة الاجتماعية لمجتمعنا السعودي خصبة في إنبات أكثر من توجه واختلاف، كان لا بد أن يكون لنا من وقفة تأمل نفكر من خلالها في إيجابيات هذه التباينات الفكرية وسلبياتها، وإلى أين سيصل بنا الطريق لو تركناها تنطلق بأقصى سرعة جدلية؟
التيار الليبرالي، والتيار المحافظ – كما أحب أن أسميه – وليس الإسلامي، لأننا كلنا في هذا الوطن مسلمون موحدون، على رغم أنف كل مصنف يصدر حكمه على غيره بعقلية بشر خطاء لا إله عادلاً رحمناً رحيماً، هذان التياران هما طرفا الخلاف الذي نشأ مع نهضة الدولة السعودية الحديثة عند ظهور الرعيل الأول من مثقفي المجتمع الذين تعلموا تعليماً عالياً في جامعات مصر وأميركا وبريطانيا، وهو خلاف يختلف تماماً عن التعليم الشرعي الذي كان سائداً في الجزيرة العربية، وعادوا بأفكار تنويرية وحماسة لتغيير أنماط الحياة المختلفة لتسهيل عملية الدوران مع النهضة العالمية المعاصرة، وهنا بدأ الخلاف الذي لن ينتهي بين طرف يرى في التغيير ضرورة لاستمرار الحياة وتسهيلها، وطرف آخر يرى فيه خطراً يهدد أمن المجتمع الأخلاقي، وغولاً سيطهو قيم المجتمع وعاداته وتقاليده على نار الفتنة والفساد، ثم يتناولها على مائدة التغريب!
ولأن لكل قطب من قطبي الخلاف وجهة نظر جديرة بالاحترام، فأنا وغيري ليس من حقنا الحكم بصحة منهج أحدهما أو بطلانه، فكلاهما فيه من السلبيات والإيجابيات ما يجعلنا نختلف معه ونحترمه في آن واحد.
ما يهمني هو أخلاقيات الخلاف والرقي عند الحوار، وألا يفسد التباين لأمن المجتمع قضية، ولا يفسد للمُخْتَلف معه سمعة أو حياة.
ولأن التناحر بينهما وصل إلى التكفير والتشهير والتعدي على حرمات المخالف له وأهله وأبنائه، بل إنه تعدى ذلك إلى قذف الأموات وقبورهم، ما زالت رطبه لم تجف، فهنا لنا وقفة كمجتمع مسلم أمرنا الله بالرحمة، وتوعد كل من همز ولمز واغتاب ونم وأكل لحم أخيه حياً أو ميتاً بتناول سيرته بما يكره.
هنا نريد تدخلاً من هيئة كبار العلماء لإصدار فتوى بتحريم ذلك، ونريد ضرب جهة مسؤولة بيد من حديد رادعة لكل من نفث سموم حقد اختلافه في وسيلة تواصل اجتماعي أو في الحياة الواقعية وضر أخاه في الدين والدم واللغة والوطن لمجرد الاختلاف، كلنا مصيب وخطاء، فلنتخلص من خطئي وخطئك، ولأجمع صوابي مع صوابك، ونبني فكراً مَرِناً يتقبل كل منا فيه الآخر مهما اختلفنا، ولنترك الحكم على صلاحنا وفسادنا لمن يحكم الكون ولمن بيده مفاتيح الجنة والنار، ولنتذكّر أن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، فهل من متعظ سامع لما أمر به الله ورسوله؟