لماذا يحتكمون بيقينهم إلى الانتخابات؟/ ابراهيم غرايبة

يتقدم إلى الانتخابات أصحاب مواقف أيديولوجية؛ دينية أو قومية أو مقاوماتية وتحريرية جذرية، رافضة لسياسات وقوانين الدولة كليا أو جزئيا. ويحيرني الانتقاء في الجذرية والرفض، ولا أجد له تفسيرا مباشرا.

لقد ارتبط هذا الانفصال المسمى “جذرية” أو “رفضا لا يقبل المشاركة”، بجماعات التطرف الديني، أو بموقف وفهم تكفيريين تتخذهما الجماعات الدينية تجاه الدول والمجتمعات. ولكنه في الحقيقة ليس موقفا دينيا؛ إذ إنه يتطابق في الجوهر، والمفاهيم أيضا، مع مواقف يتخذها غير متدينين، يزعمون عادة أنهم علمانيون أو غير متدينين. وأظنها حالة اجتماعية وليست فكرية؛ سواء كانت الفكرة المستخدمة دينية أو قومية أو أممية أو مقاوماتية؛ هي حالة انفصال وعجز عن الاندماج والمشاركة والانتماء، لأنه -وببساطة- إذا كان الرفض الجذري لسياسات الدولة ومواقفها وكيانها فكريا أو أيديولوجيا، فإنه يجب أن يكون شاملا لكل تشريعات الدولة ومؤسساتها ومساجدها وقراراتها ووثائقها وجنسيتها… الذين انسحبوا من الدولة والمجتمع كليا مثل “القاعدة” و”داعش”، كانوا منسجمين مع ما يؤمنون به ويدعون إليه.

المواقف التي يظهرها اليوم دعاة للمقاومة من المنتمين إلى تيارات فكرية وسياسية غير دينية ومن غير المتدينين، لا تختلف في شيء عن جماعات “التكفير والهجرة” و”القاعدة” و”داعش”، سواء من الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي أو غيرهم من غير المتدينين. ففي حين يقول الإخوان المسلمون والسلفيون ما تقوله “القاعدة” و”داعش”، فإن الفرق الوحيد هو أن جماعات “القاعدة” واخواتها تطبق ما يقوله الإخوان والسلفيون، ومناهج التعليم الديني في المدارس والكليات! وكذلك الحال بالنسبة لغير المتدينين من المقاومين والوحدويين والأممين الذين يدعون نظريا إلى ما يدعو إليه غيفارا، ولكنهم يسلكون عمليا مثل العشائر والمناطق!

لا أحب أن أسمي ذلك “براغماتية”؛ فهي فلسفة اقتصادية اجتماعية قائمة على المصالح والمنفعة، وتنشئ منظومة القيم والأخلاق والتقاليد السائدة. فما أهداف الشريعة الإسلامية ومقاصدها، كما المنظومات الفلسفية والفكرية الإنسانية، سوى تحقيق المصالح. وما الأخلاق والثقافة بأغلبها في منشئها وتطبيقها، سوى الحفاظ على المصالح. لكن براغماتية “الأيديولوجيين” تخلو من القيم والمبادئ التي لا يردعها رادع، وتنتهك القوانين والمصالح بلا شعور بالخطأ أو الإثم.

وبالطبع، فإن المشاركة العامة واجب وطني، ومعارضة السياسات والتشريعات هي أيضا عمل وطني. والتقدم إلى الانتخابات على أساس برامج معارضة هو عمل وطني وضروري، لأجل الإصلاح ولأجل تطوير الإدارة العامة والاتجاهات والمواقف المطبقة لتكون قادرة على الصمود أمام المعارضة. ولكن المشاركة العامة بما هي براغماتية وقبول عملي بالقوانين كلها، والقواعد المنظمة للمشاركة كلها على أساس فكر رافض رفضا جذريا، سواء استنادا إلى مظنة حق نزل من السماء، أو مواقف قومية أو اجتماعية أو سياسية؛ يدمر الحياة السياسية والعامة والعقد الاجتماعي، ويشوه ضمائر الناس، ويمنح الانفصال والكراهية مسحة جميلة تجعل أصحابهما يحسبون أنفسهم أبطالا وهم ليسوا سوى عاهات فكرية وسياسية واجتماعية، إذا لم تكن خارجة على المجتمع فإنها خارجة منه!

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري