”إن نكبة فلسطينيي سوريا خلال السنوات الأخيرة، كانت وما زالت أقسى من نكبة العام 1948، حيث اتساع قوس التشرد والشتات، واستهداف وجودهم في سوريا لدفعهم نحو الهجرات القسرية الجديدة لمختلف أصقاع المعمورة، وبالتالي شطب حق العودة، وهو الحق الذي يُشكّلُ العنوان الأبرز للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني.”
تعرض المُجتمع الفلسطيني في سوريا طوال السنوات الأخيرة التي سَبَقت محنَتِهِ لعددٍ من الأزمات الطارئة التي أصابت صميم بنيته الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، والتي باتت تُشكل حالة شبه مُستعصية في ظل تراجع العوامل الإيجابية التي كانت قفزت بحياة الناس وأوضاعهم على كافة الصعد وكافة المجالات خلال العقود الماضية من عمر اللجوء الفلسطيني إلى سوريا.
فقد تعرض مُجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا لهزاتٍ وخضاتٍ ملحوظة، ولتوالد العديد من الظواهر السلبية المُختلفة خلال العقدين الأخيرين، والتي استبطنت في دواخله، وقد بانت مُخرجاتها واضحة خلال الأزمة السورية الداخلية والتي أصابت مفاعيلها، وبالصميم لاجئي فلسطين في سوريا.
وفي التحديد المُختصر، وكما تُشير المُعطيات المتوافرة، من الجهات الرسمية المُختلفة، كوكالة (UNRWA)، والهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب في سوريا، وحتى منظمة التحرير الفلسطينية، فإن واقع المجتمع المحلي لعموم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بات واقعًا تحت أزماتٍ مختلفة، نحددها بالتالي:
أولًا: تفاقم ظاهرة التهميش لهذا المُجتمع، بكل المستويات والأبعاد، وتراجع الفرص بما فيها فُرص العمل، وخصوصًا العمل المهني العالي، مقابل تزايد أعداد حاملي شهادات التعليم العالي الذين اضطرت غالبيتهم للهجرة نحو البلاد البعيدة. فتلك الظاهرة (ونقصد ظاهرة التهميش) جرّت وما زالت تجرُ كوارث متتالية. وبالطبع فإن مَرَدُّ ذلك لا يعود للناس وحدهم، بل لمستجدات وشروط الحياة والمعيشة والعوامل التي تتحكم بمسارات الدورة الاقتصادية، وجودة الحياة والتعليم والصحة و…و…و… الخ.
ثانيًا: ظاهرة التراجع في مستويات الحياة، وخاصة في الجانب الاقتصادي منها، وهو أمر تعاضد بشكلٍ كبير مع حالة التهميش التي حوّلت المخيم الفلسطيني باتجاه معادلة (أرياف ومدن) في الدول العالمثالثية، في تجمع سكاني كمخيم اليرموك على سبيل المثال، يتميّز بكونه مُجتمعًا فتيًّا، ترتفع فيه نسبة من هم دون السادسة عشرة من العمر، لتشكّل نحو (65%) من نسبة السكان.
ثالثًا: بروز ظاهرة التمزُق الإجتماعي، وهو التمزُق الناتج أساسًا عن حالة التهميش المُتزايدة، وتزايد الفاقه، والفقر، والعوز، وقد تفاقمت تلك الظاهرة مع محنة مخيم اليرموك وغيره، وتشتت الناس، وبحثهم عن الخلاص الفردي والأسري عبر بوابات الهجرة لأصقاع المعمورة الأربعة، خصوصًا مع قلة الخيارات وغياب الجهات الفلسطينية المعنية عن المتابعة الجدية لأحوال الناس. إن تلك الهجرة تزايدت في الفترات الأخيرة حتى بات نحو نصف لاجئي فلسطين في سوريا في مغتربات جديدة تمتد من غرب أوروبا إلى كندا وأستراليا ونيوزيلندا، حيث تشير العديد من المعطيات إلى أن نحو (200) ألف لاجئ فلسطيني من سوريا غادروا البلد خلال السنوات الأربع الأخيرة.
رابعًا: تفاقم ظاهرة غياب النُخب بين لاجئي فلسطين في سوريا، بسبب من الهجرة القسرية لعددٍ واسع منها، واعتكاف ما تبقى منها عن المساهمة بالعمل المجتمعي العام على المستويات المختلفة، وقد تعزز هذا الاستنكاف والاعتكاف مع التقصير الحاد في أدوار مختلف القوى والمؤسسات الفلسطينية المتواجدة فوق الأرض السورية.
خامسًا: تزايد غياب فصائل العمل الوطني الفلسطيني عن حياة الناس، وتزايد تراجع تلك الفصائل يومًا بعد يوم، وطغيان حالة الإهمال التي تنتهجها تلك الفصائل للمجتمع الفلسطيني اللاجئ فوق الأرض السورية، بعد أن استنفدت تلك الفصائل ما كانت تريده من هذا التجمع إبان المرحلة الماضية. فبات عدد من الفصائل لا يرى أهمية لوجوده بين فلسطينيي سوريا (داخل أطره وهيئاته التنظيمية) سوى تأكيد الحضور التمثيلي بمكتب وشخص متفرغ لا أكثر ولا أقل في كل مخيم أو تجمع فلسطيني، ومع شطب شعارات التحوّل لمنظمات وقوى وأحزاب جماهيرية كما كانت تطرح تلك الفصائل. عدا عن التسريح التعسفي لأعدادٍ كبيرة من العاملين في القطاع العسكري وغيره من لاجئي فلسطين في سوريا منذ عام 1990، الذين باتت فصائلهم تَعتَبِرَهُم (عالة) عليها، وتركتهم دون ضمانات أو حياة اجتماعية اقتصادية تُليق بهم. وبالطبع فهذا الأمر لا ينطبق بالدرجة ذاتها على جميع القوى الفلسطينية، إنما بتفاوت بين فصيل وآخر. ويحضرني هنا ما سمعته من أحدهم، وموقعه الحالي نائب للأمين العام لفصيل من فصائل المنظمة، فقد أطلق جُملة مُحددة عندما اعترض البعض على تسريح الناس خصوصًا العسكريين منهم دون ضمانات اجتماعية وحياتية عام 1990، فكان جوابه السريع بأنهم باتوا (فائض مرحلة).
سادسًا: توالد جديد لظاهرة التَسَرُب من التعليم، بما في ذلك في المرحلة التعليمية الأولى (الإبتدائية) بعد أن وصلت الأُميّة إلى حالة شبه معدومة في الوسط الفلسطيني في سوريا. وقد زادت نسب تلك الظاهرة بعد الشتات الجديد لغالبية فلسطيني سوريا، ومنهم فلسطينيو مخيم اليرموك، بالرغم من قيام وكالة الأونروا بافتتاح عشرات المدارس البديلة للاجئين الفلسطينيين الذين اضطروا للخروج من المخيمات والتجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، والتي طالتها نيران الأزمة، ومنها مخيم اليرموك بدمشق، ومخيما الحسينية والسبينة في ريف دمشق. ومخيم حندرات شمال مدينة حلب، ومخيم درعا…. والتجمع الفلسطيني في جوبر ودوما في ريف دمشق الشرقي. ويحضرني هنا الإشارة إلى التفجير الدموي الإرهابي الذي ضَرَبَ جنوب دمشق في منطقة السيدة زينب يوم الثاني والعشرين من شباط/فبراير 2016 حيث سقط أكثر من (100) شهيد، منهم (52) شهيدا فلسطينيا من أبناء مخيم السيدة زينب للاجئين الفلسطينيين. فكان التفجير الأعنف الذي نال من أبناء فلسطين على أرض سوريا.
سابعًا: الأزمة السورية ذاتها، التي ساعدت بإحدات شروخ معينة في الحالة الفلسطينية على مستوياتها المختلفة، وبان من خلالها سوء التقديرات لدى مختلف القوى والفصائل الفلسطينية، وسوء رؤية وقراءة الأمور وتقدير الموقف، وغياب التوافق الوطني بين عموم القوى والفصائل، وهو ما ساعد على وقوع النكبات التي حلّت على فلسطينيي سوريا، وهنا فإن الأمر يحتاج لمكاشفات ومُصارحات بروحية مسؤولة وحكيمة وعاقلة، بعيدًا عن الخلفيات والإسقاطات والاتهامات المُسبقة، والعصبيات التنظيمية، التي طالما زادت من تعقيدات المشهد الفلسطيني.
أخيرًا: إن نكبة فلسطيني سوريا خلال السنوات الأخيرة، كانت وما زالت أقسى من نكبة العام 1948، حيث اتساع قوس التشرد والشتات، واستهداف وجودهم في سوريا لدفعهم نحو الهجرات القسرية الجديدة لمختلف أصقاع المعمورة، وبالتالي شطب حق العودة، وهو الحق الذي يُشكّلُ العنوان الأبرز للقضية الوطنية للشعب الفلسطيني، والذي يُشكّلُ أيضًا العقبة الكأداء في وجه مشاريع التصفية السياسية والمادية للحقوق الوطنية والتاريخية للاجئي فلسطين على أرض وطنهم التاريخي في حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة…