مرّت بالأمة العربية ثلاث حقب تاريخية، منذ النصف الثاني من القرن العشرين. الأولى في تصنيفي حقبة الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، فيها جموح عربي منقطع النظير: ثورة مصر 1952 وما أصابها من عداء وحروب، وقاومت، واندفع الشارع العربي مؤيداً لها. وقامت أول وحدة عربية عام 1958 بين مصر وسورية، ووحدة الهاشميين بين بغداد وعمّان، ورحب بها بعضهم وعاداها آخرون، فشلت الأولى لأسباب ليس هنا مجال تعدادها، ولم يُكتب للثانية النجاح، ثورة أخرى في بغداد أطاحت النظام الملكي عام 1958، وإعلان الجمهورية، ولاقت تأييد الجماهير من المحيط إلى الخليج، وانتصار الثورة الجزائرية، وإعلان استقلال تونس، وتحرّر الجنوب العربي من الاستعمار البريطاني، وقامت فيه دولة مستقلة ذات سيادة، وانسحاب بريطانيا من الخليج العربي. والحق أنها كانت حقبةً مليئةً بالأحداث التي رفعت الروح المعنوية لدى المواطن العربي، طمعاً في مستقبل أفضل لأمةٍ كان لها فضل في تاريخ الحضارة الإنسانية.
(2)
بدأت في المرحلة الثانية النكسات والهزائم تتتابع، وليست أصابع إيران بعيدة عنها، بدءاً من منتصف ستينيات القرن الماضي (حرب 1967)، لا لضعف أمتنا العربية. ولكن، لتخاذل بعض الحكّام العرب، ونكاية بعضهم ببعض، وانقسم الشارع العربي بين تأييد هذا الحاكم أو ذاك، وتشتتت موارد الأمة، وانكسرت قوتها، وهيمنت إسرائيل على فلسطين كلها، وألحقت بها مرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء. وكانت حرب 1973 ضد إسرائيل، واستعادت الأمة العربية ثقتها بنفسها، وتحقق النصر على عدوٍّ، ظن أنه لن يهزم، لكنه نصر لم يمتد به الزمن، والحاكم العربي هو أس الهزائم. وكانت ثورة الشعب الإيراني في 1979 التي أطاحت نظام ملك الملوك محمد رضا بهلوي، وصفقت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج لتلك الثورة، وراحت مسيرات التأييد الجماهيرية تطوف في شوارع عواصم عربية عديدة، وراحت وفود شعبية عربية من دول عربية مختلفة، لتهنئ الشعب الإيراني بتحقيق ثورته.
لم تتلقف القيادات الإيرانية الثورية تأييد الجماهير العربية لها وللثورة، بل أعلن قادة الثورة عزمهم على تصديرها إلى دول الجوار، ومنها إلى العالم الثالث. فكانت نقطة البدء التحرّش بالعراق الشقيق، انتقاما لخروج الخميني من العراق قبل اشتعال الثورة، فكانت حرب الثماني سنوات التي انتهت بهزيمة إيران. اعترفت القيادات العربية بالأمر الواقع في طهران، وتبادلت التمثيل الدبلوماسي معه، وتبادلوا الزيارات، وأكثرهم من دول مجلس التعاون الخليجي. معظم قيادات إيران زاروا عواصم دول الخليج العربي، (رفسنجاني، خاتمي، أحمدي نجاد، روحاني) وزاروا عواصم عربية أخرى.
“كفّوا، يا معشر الكتاب العرب، عن التزلف لإيران، وأملنا في “عاصفة الحزم” كبير، لإعادة اعتبار الأمة بعد وهن عربي كبير”
(3)
حاول قادة عرب كثيرون استرضاء إيران، بل قال أحد قادة دول مجلس التعاون أمام مرشد الثورة الإيرانية، خامنئي، “أنت، أيها المرشد، مرشدنا جميعاً وليس إيران وحدها”، ولم يشفع له ذلك القول. لم ينتظر ذلك الحاكم العربي طويلاً حتى تم اكتشاف خلايا إيرانية في بلاده، وفي معيتها خلايا لحزب الله اللبناني، تكدّس السلاح الفتاك، وتحرّض على أمن تلك الدولة وجوارها العربي. وقبل ذلك، كادت تفجيرات أن تودي بحياة أمير الكويت الراحل، الشيخ جابر الأحمد، كما تم اختطاف طائرة كويتية. وفي البحرين، حدّث ولا حرج. ولم تسلم المملكة العربية السعودية من أذى إيران وأتباعها في المنطقة، والعراق شاهد على ما تفعل به إيران، وسورية ولبنان، وأخيرا اليمن. لن أتحدث عن عمليات التشييع في أكثر من دولة عربية من المحيط إلى الخليح. والحق أن العرب لم يتعاملوا مع إيران بمثل ما تتعامل معهم، لم تحرّض الحكومات العربية، منفردة أو مجتمعة، على الإخلال بأمن الجبهة الداخلية الإيرانية وسلامتها. لم تجند البلوش والأحوازيين والأكراد السنة على أي أعمال تخلّ بالداخل الإيراني، بل أذهب بعيداً، وأقول إن دول الخليج العربية، على الرغم من محاولات إيران العبث بأمنها، لم تسمح بدخول أراضيها لأي معارض إيراني، سواء كان من عرب الأحواز أو أهل السنة من البلوش الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة. حاول قادة دول الخليج العربية استرضاء إيران، بما في ذلك دولة الإمارات التي تحتل إيران جزرها (طمب الصغرى والكبرى وأبو موسى)، فلم تزدد إلا غطرسة وتعالياً.
(4)
يقول كاتب عربي مرموق: “إيران أصبحت رقماً مهماً في المنطقة يتعذر تجاهله، وهي تتجه لأن تصبح رقماً أكثر أهمية. لذلك، فإن الملف يستحق حواراً جاداً بين الطرفين، ينطلق من الاعتراف بأن كل طرف أساء إلى الآخر”. يا سيدي، لنترك الحرب العراقية الإيرانية جانباً، ونؤكد القول إن العرب لم يسيئوا لإيران إطلاقاً، بل أساءت إيران للعرب، قولاً وعملاً. دعا أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إيران إلى حوار جاد مع دول الخليج؟ كان جواب إيران هو الرفض. ألم يقول وزير الخارجية السعودي السابق، الأمير سعود الفيصل، “إيران دولة كبيرة وجارة، ولا شك أن لها دورا في المنطقة. ولكن، يجب أن يكون له إطار يراعي مصالح الدول الخليجية”. ثم جاء الرد الإيراني زيادة في تجهيز الخلايا السرية للعبث بأمن دول الخليج العربية.
سؤال أطرحه على صاحب الدعوة لانحناء العرب لإيران؟ هل إيران على استعدادٍ لرفع يدها عن العراق وسورية ولبنان، واستعدادها للذهاب إلى محكمة العدل الدولية، لتفصل في أمر الجزر العربية المحتلة، وعلى استعداد لأن تكف يدها عن التدخل في المسائل الداخلية، في دول الجوار، والكف عن تشكيل أحزاب معادية لبعض الحكومات العربية. عليها أن تبادر لفتح صفحة جديدة مع الجوار، وعلينا أن نتمم المسيرة.
لا يكنّ العرب العداء للشعب الإيراني، ولا يتدخلون في شؤونه الداخلية، ولا يحرّضون أهل السنة في إيران على حكومتهم. نحن نؤمن بحق الجوار، ونعترف بأن بيننا وبينهم عقيدة مشتركة. لماذا، يا صاحب الرأي، لا تكتب دعوتك إلى إيران بألا يتدخلوا في شؤوننا، وتدعوهم إلى تحكيم العقل وتثقفهم بحق الجوار، ولا يبقون يجترّون التاريخ القديم، فالإسلام يجبّ ما قبله. وإذا كان خلاف قد أدى إلى حرب السنوات الثماني، فقد انتهت، بخيرها وشرّها، وغاب رموزها.
آخر القول: كفّوا، يا معشر الكتاب العرب، عن التزلف لإيران، وأملنا في “عاصفة الحزم” كبير، لإعادة اعتبار الأمة بعد وهن عربي كبير.