لأن إيران تعتمد الطائفية هوية لها، تعمل على مد نفوذها في العالم العربي على أساس من هذه الهوية. وتدعم هذا التمدد بنشر فكرة الميليشيا المسلحة في الدول العربية التي تسمح تركيبتها الديموغرافية والسياسية بذلك. ولأنها تعتبره عمقها الاستراتيجي المباشر، ولا تريده أن يعود منافساً لها كما كان قبل سقوط النظام السابق، تعمل إيران على إضعاف العراق بانقسامه على أساس طائفي. من مصلحتها أيضاً إضعاف سورية وإلحاقها بنفوذها، كخط دفاع عن عمقها الاستراتيجي. من هذه الزاوية، وإذا أخذنا العراق منطلقاً لما حدث بعد ذلك، نجد أن الميليشيات السنية في هذا البلد وغيره ظهرت كرد فعل على الاحتلال الأميركي، ثم على التوجه الطائفي للنظام الجديد تحت الاحتلال، وعلى الميليشيات التي أخذت إيران تتبناها لدعم النظام.
مناسبة هذا الحديث أن القرارات العربية الأخيرة بوضع «حزب الله» اللبناني على قائمة الإرهاب هي خطوة في اتجاه وقف التستر على دور إيران، ومواجهة الواقع كما هو ووضع الأوراق على الطاولة. لكن هناك من فوجئ بذلك رغم أنه ليس محسوباً على «محور الممانعة». أحد هؤلاء الكاتب المصري المعروف الأستاذ فهمي هويدي الذي ربط في مقالة له في صحيفة «الشروق» المصرية بين قرار دول مجلس التعاون الخليجي باعتبار «حزب الله» تنظيماً إرهابياً، وما يقال عن خطط إسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية للحزب. واعتمد في ذلك على تقرير لموقع «رأي اليوم» المعروف بعدائه للسعودية ولدول الخليج. وختم هويدي مقالته بما جاء في التقرير من أن قرار مجلس التعاون «يمكن أن يشكل غطاء مناسباً لشن إسرائيل حربها ضد الحزب. والذريعة التي تستخدمها في ذلك هي تضامنها مع الدول العربية السُنية في الحرب ضد الإرهاب، وهو ما يثير علامات استفهام حائرة حول تزامن إصدار القرار الخليجي مع حملة التعبئة المضادة لحزب الله من جانب إسرائيل».
تنطوي هذه الخاتمة على منطق يجعل من العدوان الإسرائيلي مبرراً للسكوت عن أية سياسات عدوانية أخرى موجهة ضد هذه الدولة العربية أو تلك، والتعايش معها. أي أن واجب الدول العربية هو الصمت أمام إيران وميليشياتها في المنطقة، لأن الاصطدام معها يخدم إسرائيل. وهذا تحديداً ما تنتظره إيران من رفع شعار «المقاومة». كأننا لم نتعلم من تاريخنا مع الصراع العربي – الإسرائيلي، ولا مع هذا الشعار المزيف. المضمر خلف خاتمة التقرير هذه منطق يبرر عدواناً «إيرانياً» باسم الأخوة الإسلامية بعدوان آخر، «إسرائيلي – غير إسلامي». (راجع «الحياة»، الأحد 5 نيسان (أبريل) 2015). وهو منطق مدمر لأنه يلغي واقع الأحداث ومنطق التحليل الموضوعي لهذا الواقع، ومن ثم يعطي شرعية للتستر والكذب. واقع الأحداث ومسارها لا يقولان أن أولوية إيران هي مقاومة إسرائيل، وإنما مد نفوذها مستفيدة من الفراغ العربي، ومن خلال توظيف ورقة الطائفية، وورقة الصراع العربي – الإسرائيلي في داخل هذا الفراغ. على من يرى صدقية لشعار «المقاومة» أن يسأل نفسه: هل من المنطق أن تتحمل إيران عبء مقاومة إسرائيل بالنيابة عن العرب، وهو عبء ثقيل وخطر في هذه المرحلة، هكذا لوجه الله؟ مرة أخرى، إيران دولة، والدول ليست جمعيات خيرية لا باسم الإسلام، ولا غير الإسلام.
ومع أن افتراض أن «حزب الله» حركة مقاومة، وأن إيران تدعمه لهذا الهدف، ولا شيء سواه، هو افتراض خيالي ولا وجود له، إلا أننا حتى لو تنازلنا وقبلنا به، فإنه لا يبرر نشر ظاهرة الميليشيات في العالم العربي، أو الانخراط في سياسات تدميرية أولاً في العراق، ثم سورية، كما تفعل إيران بأذرعها من الميليشيات. كما أنه لا يبرر تحويل «حزب الله» ليصبح دولة داخل الدولة اللبنانية. والحزب الآن كذلك يمتلك جهازاً إعلامياً، واستخباراتياً، وجيشاً يفوق ما تمتلكه الدولة اللبنانية. ويمتلك موازنة مستقلة عن الدولة، ويرتبط في كل ذلك بدولة أجنبية تمده بالمال والسلاح والغطاء السياسي. ما يربط الحزب بهذه الدولة هو رابط استتباع على أساس مصالح طائفية لا علاقة لها بالدولة اللبنانية، ولا بالهوية العربية، ولا بقضية فلسطين. والسؤال الذي ينبغي أن يشغلنا في هذه الحال هو: ما الهدف من وراء تحويل «حزب الله» إلى دولة بهذا الحجم؟ هل يقبل المصريون أو السعوديون أو الجزائريون مثلاً أن تأتي دولة أجنبية وتنشئ لديهم ميليشيا، أو ميليشيات عدة باسم المقاومة، أو أي اسم آخر؟ وإذا كنا لا نقبل بمثل هذا في دولنا، فلماذا نقبل به في بلد عربي مجاور تحت شعار مزيف؟
بماذا يمكن أن نصف «حزب الله» إذا كانت مقاومته مزيفة، وغطاء للقتل والاغتيال، وتصفية للخصوم، ودعماً لنظام طاغية يقتل شعبه للبقاء في الحكم، ويعمل تحت راية ولاية الفقيه، كما يقول الأمين العام للحزب، وهي راية طائفية لدولة أجنبية؟ هل يمكن أن تجتمع المقاومة مع الطائفية والطغيان؟ حجم ضحايا ما يسمى بـ «المقاومة» من القتلى والجرحى والمهجرين في سورية ومن السوريين فقط، وخلال خمس سنوات، هو أضعاف مضاعفة لضحايا العدوان الإسرائيلي من كل العرب، وليس من السوريين فقط، وعلى مدى أكثر من 65 سنة من الصراع. بأي معنى، ولأي هدف يجوز قبول ادعاء هذه «المقاومة» الدموية في حق شعوبها، وهي تحمل في عنقها من دماء العرب الأبرياء أكثر مما تحمله رقبة العدو الإسرائيلي؟ لا يجوز بأي مبرر، ولا تحت أي ظرف التساهل في توظيف شعار مقدس كالمقاومة غطاءً للجريمة والطائفية والإرهاب.
كان الأستاذ هويدي استنكر قبل عام تقريباً في الصحيفة نفسها الموقف العربي الذي بدا له هزيلاً أمام تصريحات لمسؤول إسرائيلي وآخر إيراني، حين قال أن «الرجلين تعاملا بازدراء شديد مع العالم العربي، وتصرفا باعتباره عالماً عاجزاً ومنزوع الإرادة، وفي فراغه عربد الأول وتمدد الثاني». ثم يختم بقوله: «ينبغي أن نوسع من دائرة الاستهجان، ليشمل أيضاً الذين أحدثوا الفراغ وأصبحوا عاجزين حتى عن إعلان الغضب إزاء ذلك الازدراء». وهو محق في وضع المسؤولية على من تسبب في إحداث الفراغ الذي تستفيد منه إيران وإسرائيل. لكن من أسباب الفراغ التهاون مع فكرة الميليشيا في مقابل الدولة، ومع إيران في استغلال عواطف العرب لأغراض لا علاقة للعرب بها، ومع تسمية الأمور بأسمائها، وتوصيفها بما هي عليه في حقيقتها.
من يشارك في قتل السوريين أو العراقيين أو غيرهم لأنهم يختلفون عنه في المذهب أو الدين، ولمصلحة حاكم يشترك معه، أو أقرب له في الهوية الطائفية أو المذهبية، لا يمكن أن يكون مقاوماً، وإنما هو إرهابي في خدمة المذهب والطاغية. كم مرة تعهد حسن نصرالله بأن بندقية الحزب موجهة حصراً إلى العدو الإسرائيلي، وأنها لن توجه إلى الداخل اللبناني، ولن تكون طرفاً في أي صراع داخل أي بلد عربي. ثم حنث بكل ذلك عند أول منعطف في لبنان أولاً، ثم في العراق وسورية واليمن والبحرين. لم يعد «حزب الله» مقاومة، بل أصبح ذراعاً إيرانية في حروب طائفية تفرخ الإرهاب. هذه حقيقة لم يعد من المفيد التهاون معها. وإسرائيل لن توجه إليه ضربة وهو يقاتل مع النظام السوري. هي تفكر بمنطق الدولة، وتعرف أن الحزب تحت سيطرة النظام الإيراني، وأنه غير «داعش» المتفلت. ثم إن هناك تقارباً إيرانياً مع الغرب، من نتائجه أن المشروع الأميركي في المنطقة الذي كان يتم الحديث عنه اتضح أنه تتقاطع عنده مصالح روسيا وإيران وإسرائيل، وما يسمى بـ «المقاومة».