تنطوي عملية مدينة بنقردان التونسية على تطور خطير في أساليب عمل تنظيم “داعش” الإرهابي، يتعين على جميع دول المنطقة التي تواجه تحدي الجماعات الإرهابية التمعن فيه واستخلاص الدروس.
اتبع “داعش” في بنقردان أسلوبا مبتكرا في هز الوضع الأمني بدولة مستقرة نسبيا؛ عشرات من الإرهابيين الأشداء يهاجمون مدينة صغيرة بشكل مباغت، ويسيطرون على مراكز السلطة والأمن فيها، ويتحصنون في أزقتها، فيتطلب إخراجهم معركة شرسة استغرقت أياما.
العملية بحد ذاتها اختبار لقدرة القوى الأمنية وجاهزيتها. ومقاتلو التنظيم الإرهابي ليسوا بالسذاجة التي يعتقدون معها أن بإمكانهم الاحتفاظ بالسيطرة على المدينة لأمد طويل. الهدف باختصار هو ضرب الثقة بقدرة الأجهزة الأمنية، وتأكيد جاهزية التنظيم في المباغتة والتسلل من الخواصر الضعيفة للدولة، حتى لو كلفتهم محاولة الإثبات حياة العشرات من العناصر.
امتصت القوى الأمنية التونسية الصدمة بشكل سريع، واستعادت زمام المبادرة، لكنها اضطرت في نهاية المطاف لخوض مواجهة دموية مع الإرهابيين، وضعت تونس على القائمة الحمراء لعدة أيام، قبل أن تقضي على المجموعة التي هاجمت المدينة.
لاتنطبق ظروف تونس تماما على سواها من الدول العربية؛ حدود رخوة مع ليبيا المجاورة التي أصبحت مرتعا للإرهابيين، ومصدرا لتهديد عالمي، والآلاف من التونسيين المقاتلين في صفوف الجماعات الإرهابية، وقد تمكن المئات منهم من العودة إلى تونس وتنفيذ عمليات مميتة في العاصمة ومدن سياحية أخرى.
لكن هذه الإختلافات لا تنفي إمكانية محاكاة تجربة بنقردان في دول أخرى، تتمتع بقدرات أمنية أفضل.
نجاح التنظيم الإرهابي في اختراق المنظومة الأمنية التونسية التي تعاني من إشكاليات بنيوية بسبب الظروف الانتقالية التي مرت فيها الدولة، أغرى الإرهابيين بتطوير وسائل عملهم، والانتقال من طور العمليات الفردية إلى الهجمات الجماعية على المدن لإخضاعها قسرا لحكمهم المتوحش.
المحاولة “الأولى” في بنقردان أخفقت، لكنها ستصبح مصدر إلهام لعناصر التنظيم في تونس ودول عربية أخرى. يمكن ببساطة اختيار بلدات أو أحياء في مدن بعيدة عن مراكز السلطة التقليدية، ومهاجمتها ببضع عشرات من الإرهابيين، وإعلانها جزءا من أراضي دولتهم المزعومة في العراق وسورية. لن يكون من السهل على قوات الأمن استعادة السيطرة؛ فالإرهابيون سيتخذون من السكان العزل دروعا بشرية لحماية أنفسهم، ويتحصنون في مناطق مكتظة بالمواطنين لجعل مهمة تحرير البلدة مكلفة على قوات الأمن وعلى السكان أيضا.
وعادة ماتراهن هذه العصابات على الصورة الإعلامية لتعميم النموذج، وإحراج مؤسسات الدولة، فيكفي على سبيل المثال إجبار مواطنين من البلدة على الوقوف أمام كاميرا هاتف خلوي، وإعلان مبايعتهم لدولة الخلافة وأميرها، وإرسال الفيديو على الفور لشبكة الإنترنت.
إنه سيناريو مرعب حقا، قد يقول البعض إنه خيالي وصعب التطبيق، لكن ماحصل في بنقردان يدق ناقوس الخطر، ويؤكد أن هذه العصابات الإرهابية لا تتوانى عن فعل كل مايمكن من الأعمال الشريرة كي تستمر في دائرة الضوء، والبقاء على قيد الحياة في ظل الحصار الخانق الذي تتعرض له في مناطق سيطرتها.