كانت أحداث الأربعاء 2/3 والتي استشهد فيها النقيب راشد الزيود، و التعاطف الشعبي مع أهله وذويه، دليلا قاطعا على قوة النسيج الوطني الأردني الذي يتجلى ألقه في الأزمات.و قد مست كلمات والد الشهيد للملك، الذي كان في موقع الحدث و في مقدمة المستقبلين و المودعين للشهيد، مست كلماته قلب وضمير كل أردني حين قال “ لدي ثلاثة أولاد، استشهد واحد منهم فداء للأردن، والاثنان الباقيان هما فداء لحماية الأرض الأردنية و شرف الأردنيات. وليس لنا ما ندافع عنه سوى هذه البلد.” و كانت مشاركة الملك تعبيرا عن الروح الوطنية الأصيلة . “كلنا فداء لك يا بلادي”. لقد تمكنت أجهزتنا الأمنية في هذه الحادثة من القضاء على مجموعة إرهابية مخدوعة مأجورة، تسعى إلى الإضرار بالوطن وترويع المواطنين، وترفع شعار الخروج على الدولة وعلى القانون، وتتلطخ أياديها بانتهاك القيم الإنسانية والأخلاقية.
كانت الأحداث مؤشراً قويا على مسألتين:الأولى أهمية التلاحم الوطني والوقوف صفا واحدا مع جيشنا وأجهزتنا الأمنية و تمتين الجبهة الداخلية حتى تصبح عصية على من يحاول اختراقها.و الثانية ضرورة إزالة الأسباب ودحض الأفكار و الثقافات التي تجعل الشباب فريسة للتغرير بهم من قبل الجماعات الإرهابية نتيجة للجهل أو المفاهيم المخطوءة عن الدين أو نتيجة للإحباط و الفراغ و الإغراء فيكونوا بيئة حاضنة للفكر المتطرف.
وإذا كانت الأجهزة الأمنية والجيش يقومون بدورهم بفاعلية و شجاعة و تضحية عالية ، فلا بد من الإعتراف بأن الجهود العملية و المؤسسية المنظمة لإزالة أسباب الإنجراف وراء التطرف والغرق في الأفكار و الثقافات الظلامية لا تزال جهودا متواضعة للغاية ،مبعثرة و مترددة، و لا تتناسب مع جسامة الموقف. وقد فاقم هذا الأمر تعقيدا و صعوبة وخطورة ثلاث مساءل تضغط باتجاه الأردن .الأولى وجود (3) مليون نسمة من غير الأردنيين يقيمون على الأراضي الأردنية ويتحركون في كل مكان، بكل ما لديهم من ارتباطات و ولاءات و ثقافات ،و أفكار و علاقات ظاهرة وخفية، سليمة أو مريبة.الأمر الذي يضع ضغوطا غير اعتيادية على التكوينات الإجتماعية و خاصة الشباب. و الثانية الضغوط التي تواجهها “داعش” في أماكن تمركزها و بالتالي محاولتها للوصول إلى موقع آخر، و فتح جبهة جديدة داخل المدن مباشرة حتى تكون مواجهتها أكثر صعوبة و حساسية. و الثالثة الجهود الخفية لدى بعض الدوائر الدولية، بما فيها إسرائيل، لإبقاء حالة الفوضى والتدمير في كل مكان فربما تنشأ ظروف مواتية لفرض معادلات سكانية وسياسية من نوع آخر.
وحقيقة الأمر إن المدخل الرئيس لتدعيم الجبهة الداخلية و تحصينها و مؤازرة القوات العسكرية والأمنية تتمثل في محاور عديدة لعل في مقدمتها.أولا : الإستمرار في الإصلاحات الجادة على كل صعيد. وثانيا توليد فرص العمل الكافية و المنتشرة في أنحاء المملكة لإحداث تغيير حقيقي لمحاصرة الفقر والبطالة. و ثالثا نشر الفكر والثقافة المستنيرة لمواجهة الفكر الظلامي من جهة، والتوعية الفكرية والثقافية والإعلامية والدينية الصحيحة من جهة أخرى.و رابعا تشجيع انخراط الشباب في خدمة العلم والخدمة المجتمعية المنظمة و الأحزاب و منظمات المجتمع المدني و خلق البيئة الملائمة لكل ذلك.
بوجود 1.25 مليون يد عاملة غير أردنية، وارتفاع نسبة البطالة بين الأردنيين إلى 14% ووصولها إلى 18% و 20% في بعض المحافظات، و 30% بين الشباب، و 49% بين الإناث الجامعيات، وطلب الدول المانحة إيجاد (200) ألف فرصة عمل للاجئين تكون البلاد قد دخلت بمنعطف عميق راحت مظاهره ونتائجه تتراكم على مدى السنوات،و ستعمل الجماعات المتطرفة والإرهابية على استغلاله لصالحها.
إن الإنجازات التي تحققت في الإصلاح السياسي لا زالت محدودة و بطيئة .و لا زال المواطن يتطلع إلى مزيد من المشاركة التي ترسخ أسس الديموقراطية. كما أن الإصلاحات الإقتصادية بعيدة عن الإقتصاد الحقيقي و متوجهة نحو المسألة المالية . الأمر الذي زاد معيشة المواطن مشقة تتجاوز قدرة الكثيرين على الإحتمال. إضافة إلى أن المحافظات لا زالت تعاني الإهمال الإقتصادي و تنتظر وعود التنمية. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لإصلاح التوجيه الديني والتعليم والثقافة.
أما توليد فرص العمل فإنها أبعد ما يكون عن المستوى المطلوب في بلد يحتاج إلى أكثر من 70 ألف فرصة عمل سنويا لمواطنيه فقط، ناهيك عن الوافدين .صحيح أن جهودا متفرقة لتشغيل أعداد محدود من الأيدي العاملة تبذل هنا و هناك، ولكن دون خروج حقيقي من الأزمة.ولسبب غامض ولحكمة مستعصية على الفهم لا نجد “الإدارات” المتعاقبة مستعدة للإفادة من تجارب الأمم في حل مشكلة البطالة و تنمية الأرياف. كيف تعاملت دول كثيرة منها ماليزيا وكوريا وسنغافورة والصين والهند والبرازيل وغيرها مع هذا الموضوع و كيف خفض “مهاتير محمد” البطالة من 70% إلى 8% عن طريق برنامج إقتصادي يحكمه عقل علمي عملي للدولة.ليس هناك من طريق للتشغيل ولمواجهة البطالة إلا “تصنيع الاقتصاد من خلال المشاريع الإنتاجية الحديثة”. وهذه المشاريع ينبغي أن تكون جزء من مجموعة من المشاريع ذات العلاقة المنتشرة في المحافظات ،و أن تكون الدولة طرفا فاعلا في الموضوع ،و خاصة في هذه الظروف التي يتردد فيها المستثمرون و يخشون المخاطرة منفردين.
إن الخطط الوطنية والبرامج العملية لنشر الفكر المستنير وتعزيز الثقافة العلمية العقلانية ،القائمة على المثل الوطنية والإنسانية و القيم الدينية الصحيحة التي تقوم على الخير والمحبة والمساواة لا زالت غائبة إلى حد كبير. و لا زال الفكر الظلامي يجد طريقه على عقول الشباب بشتى الوسائط والطرق.و المطلوب وضع برنامج وطني سريع لهذه الغاية يشارك فيه العلماء و المفكرون والتربويون والمثقفون والإعلاميون و منظمات المجتمع المدني، و يتم تمويله كأي مشروع له الأولوية القصوى .فالفكر لا يقف أمامه إلا الفكر،و الظلام لا يمسحه إلا نور العقل والعلم.
إن انخراط الشباب في خدمة العلم، هو اللبنة الأولى في بناء شخصيتهم القوية، ووطنيتهم المنضبطة و تسامحهم و مهنيتهم و قبولهم للآخر . كما أن تشجيع الشباب على العمل الإجتماعي و الإنخراط في الأحزاب و منظمات المجتمع المدني من ِشأنه أن يساعد على تمكينهم من المشاركة، ويعمق التمازج الإجتماعي والثقافي والديني والجهوي، والأهم من كل ذلك، أن يبعد شعورهم بالتهميش الذي كثيرا ما يدفعهم إلى الكراهية و التطرف، ومن ثم الوقوع في براثن الجماعات الإرهابية.
نعم إن الأردن لديه الإمكانات، ولديه العزيمة والإرادة، لأن يدافع بدماء أبنائه عن أمنه وسلامته واستقراره و ترابه حتى يصنع المستقبل الذي يطمح إليه.و لكن ذلك يتطلب ،إضافة إلى تضحية جيشنا و أمننا،العمل الحثيث و الصادق و الفوري لخلق البيئات الإقتصادية و الفكرية و السياسية و التشاركية التي تقهر التطرف و تهزم الإرهاب.