جلس العربي أمام الشاشات. يمكن القول إنه مشاهد متفرغ. لم يتفهّم صاحب العمل غياباته المتكررة. حاول أن يشرح له أن المرحلة حرجة، ومستقبل الأمة في الميزان، وأن خرائط تتقاعد وأخرى تشق طريقها. لم يتساهل. استقال العربي القلِق ووزّع الشاشات على الجدار.
يحتاج الأمر إلى مُشاهدٍ متفرغ. الحروب كثيرة ومعقّدة، والميليشيات عديدة ورهيبة. شاشة لسورية، وثانية للعراق، وثالثة للبنان، ورابعة لليبيا، وخامسة لليمن، وسادسة لفلسطين. وشاشة أخيرة للأهوال المتنوعة، والأخبار العاجلة، والبث المباشر من مواقع الكوارث.
وقع العربي المسكين في قبضة المحلّلين. محلّل الشاشة الأولى لا يريد أن يكذب على المشاهدين. كلامه قاطع ومباشر. يعرف من مصادر واسعة الاطلاع أن الانهيار الكبير لا يزال في بداياته، وأن الأهوال التي شهدناها ليست سوى المقدّمات، وأن الأيام المقبلة ستكون أشد فتكاً.
يهرب إلى الشاشة الثانية. كان المحلّل الإستراتيجي في انتظاره. قال: «لا تخطئ في الحساب. انسَ سورية. تلك البلاد التي كنتَ تعرفها ذهبَت إلى غير رجعة. سيتحارب السوريون طويلاً قبل أن يوافقوا على صيغة تنظّم نوعاً من الطلاق بينهم. دولة مركزية ضعيفة يرفرف علمها فوق أقاليم تعوم على أحقادها وكراهياتها. الحديث الروسي عن الفيديرالية يرمي إلى تدريب السوريين على تجرُّع سورية أخرى حين يتوقف إطلاق النار».
شعر العربي بحزن شديد. كان طالباً حين سمع رفاقه يهاجمون بقوة خرائط سايكس – بيكو، وكيف أن سكاكين غرباء تولّت تقطيع أوصال الأمة. وسمع أيضاً أن الغضب يهدر في عروق العرب، وأنهم يريدونها أمة واحدة ذات رسالة خالدة، وأن يوم إزالة آثار الاستعمار وارتكاباته لن يتأخر. انتابه غضب غامر. كاد يخرج إلى النافذة ويصرخ: «أعيدوا إلينا كيانات سايكس – بيكو، إنها أكثر رحمة بالتأكيد من الخرائط الصغيرة التي تُرسَم بجثث الأطفال والبيوت المحروقة».
كَظَمَ غَيْظَهُ وهاجر إلى شاشة أخرى. قال المحلّل: «دعنا لا نكذب على بعضنا بعضاً. العراق القديم مات. أهل الموصل يتحيّنون الفرصة للخلاص من «داعش». لا يطيقون أسلوبه ولا سكاكينه. يريدون تحرير مدينتهم لكنهم لا يريدون أن يدخل «الحشد الشعبي» إذا غادر «داعش». المشاهد التي وردت من ديالى ضاعفت مخاوفهم من «الحشد» وممارساته». حذّر المحلّل من أن الوضع في كركوك ينذر بمواجهات مقتربة بين البشمركة و «الحشد».
لَفَتَ إلى ما هو أخطر من الوضع في كركوك. تحدّث عن انهيار محتمل لسد الموصل، بسبب تعثر أعمال الصيانة. نقل عن خبراء أن انهيار السد سيطلق أمواجاً عاتية من المياه يصل ارتفاعها إلى عشرين متراً. قال إن انهيار السد سيُغرِق الموصل وتكريت وستصل المياه إلى سامراء وبغداد. وتوقّع أن يؤدي الانهيار إلى مقتل حوالى مليون شخص في المناطق القريبة من دجلة.
كاد العربي أن يُصاب بالجنون. كان ينقصنا سد الموصل. قالها وضرب كفاً بكف.
فرّ إلى شاشة أخرى. قال المحلّل: «لبنان الذي نجح في الإقامة على أطراف الهاوية يستعد للغرق في قعرها. تركيبته الهشّة أصلاً لا تسمح له باحتمال النزاع الشيعي – السني. لا يستطيع أيضاً احتمال تحوُّل «حزب الله» قوة إقليمية محاربة وعابرة للحدود، كما لم يستطع اليمن احتمال مغامرة الحوثيين. لا حل في الأفق. لا بد من انتظار تحوُّل إيران من دولة مصدِّرة للثورة وعدم الاستقرار إلى دولة طبيعية، لكن ذلك قد يستغرق عقوداً».
ضرب العربي كفاً بكف. أي خريطة تستطيع الانتظار إلى هذا الحد؟ يعرف العربي أن النسيج الوطني تهرّأ هنا وهناك. وأن خرائط كثيرة تآكلت وتتلوى الآن على أنغام الميليشيات. وأن الطلاق يستحكم في الشعارات والنفوس. لقد انهارت كل السدود دفعة واحدة. سقطت ركائز الحد الأدنى من الاستقرار، وسَقَطَ التعايش، وسقطت كل الحصانات والمحرّمات. غرور القوّة مُقلق، وأوهام الاستقالة من الخرائط مرعبة. المسألة أخطر بكثير من سدّ الموصل. تدفق الكراهيات أشدُّ هولاً. إننا بلاد الجنازات والشاشات.