صنع محمد حسنين هيكل تاريخه بنفسه، ونجح في وضع بصمته على عصره ومضى، تاركاً وراءه جدلاً لا ينتهي، تراوح بين التفخيم إلى حد التقديس والتحقير إلى حد الكراهية والتشفّي. ولأنه اختار لنفسه نمط العلاقة التي أرادها مع كل صناع القرار الذين تعاقبوا على حكم مصر في حياته، بدءاً بالملك فاروق وانتهاء بالرئيس عبدالفتاح السيسي، فقد كان من الطبيعي أن تختلط مشاعر الإعجاب غير المحدود به مع مشاعر الحقد عليه أو تملّقه والسعي الى الوصول على أكتافه. لذا أعتقد أنه سيمر وقت طويل قبل أن يحظى تراث الأستاذ، وهو ضخم ومهم، بتقييم موضوعي مجرد عن الهوى.
التقيت الأستاذ للمرة الأولى في بداية الثمانينات في منزل الدكتورة هدى عبدالناصر. كنت قد بدأت عملي مدرساً للعلوم السياسية عقب عودتي من الدراسة في فرنسا بعد غياب دام سبع سنوات، وكان كتابه «خريف الغضب» قد نُشر منذ أيام وأثار ضجة كبرى، ووجهت لي الدكتورة هدى، مع زميلين آخرين من أصدقائها في الكلية، دعوة لتناول فنجان شاي في بيتها وتقديمنا للأستاذ هيكل، فرحّب الجميع بحماسة. تكررت لقاءاتي بعد ذلك بالأستاذ في مناسبات عامة عدة، قبل أن تتطور لاحقاً إلى لقاءات ثنائية شبه منتظمة تم معظمها في مكتبه المطل على النيل. في أول لقاء ثنائي به، أهداني الأستاذ مجموعة من مؤلفاته وتحدث عن تجربته الشخصية وعن أسلوبه في الحياة والعمل، فاكتشفت إنساناً يدرك حجم مواهبه ويعرف كيف يستثمرها وينمّيها عبر إلزام نفسه بسلوك صارم يجمع بين الانضباط والرقي، كما اكتشفت صحافياً من طراز مهني رفيع لا يترك شيئاً للمصادفة ويحرص على تدوين كل ما يرى ويسمع، ولم يفته اطلاعي على ملفات تحوي أوراقاً سجَّل فيها انطباعات تعود الى سنوات طويلة خلت عقب أحاديث متنوعة حصلت مع قامات ثقافية وفكرية رفيعة، من أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهما ممن حرص أشد الحرص على أن يكونوا إلى جواره في مؤسسة «الأهرام». لفت نظري طوال السنوات التي أعقبت لقائي الأول به، حرصه المتزايد على الاستعانة بالوثائق من مصادرها الأولية وجمع كل ما يتعلق منها بأحداث عايشها وتحليله، مهما كلّفه ذلك من جهد أو مال. وقد عكس هذا التوجه الجديد نفسه بوضوح تام على عدد من أعماله الكبرى، بخاصة ثلاثيته عن «حرب الثلاثين سنة» وثلاثيته عن «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل». وأتاح أمام الباحثين الأكاديميين والمؤرخين المحترفين ثروة هائلة من المعرفة ومن المعلومات المدققة، وشكَّل نقلة نوعية في شكل كتاباته منذ الثمانينات ومضمونها.
لم يدّع الأستاذ هيكل مطلقاً أنه باحث أكاديمي أو مؤرخ محترف، وكثيراً ما أثارت كتاباته، خصوصاً تلك التي عبَّر فيها عن مواقف وآراء سياسية أو فكرية، انتقادات صاخبة وصلت في بعض الأحيان حد التجريح الشخصي. وعلى رغم ترفّعه الدائم عن الرد على منتقديه، إلا أنه كان شديد الحرص في الوقت نفسه على أن يشرح ويوضح ما التبس على كل من ربطته به علاقة احترام متبادل، وهو ما لمسته بنفسي في مناسبات كثيرة، أكتفي منها بالإشارة إلى اثنتين:
الأولى: حين استضافت قناة «الجزيرة» الفريق سعد الدين الشاذلي في برنامج «شهادة على العصر». فقبل ساعات من موعد الحلقة الختامية المخصصة للرد على تعليقات المشاهدين واستفساراتهم، اتصل بي معد البرنامج لاستطلاع رغبتي في القيام بمداخلة وقت إذاعة البرنامج على الهواء. ولأنني كنت قد تابعت شهادة الفريق الشاذلي، الذي أكنّ له عظيم الاحترام، ولديَّ ما أقوله حول هذه الشهادة، فقد وافقت على الفور. جاءت مداخلتي على هيئة سؤال وجهته الى الفريق الشاذلي حول اختلاف روايته بعض الأحداث عن رواية الأستاذ هيكل، وقرأت عليه نص فقرة من أحد كتب هيكل تدلل على ما أقول، وذكرت رقم الصفحة التي تضمنتها. ولأن إجابة الفريق الشاذلي لم تكن من النوع الذي يمكن أن يسعد الأستاذ، فقد بادر بالاتصال بي على الفور شارحاً وموضحاً. واعتبر ما قاله مجرد وجهة نظر، لكنني قدرتُ جداً حرصه على التوضيح.
الثانية: بعد قيام صحيفة «المصري اليوم «بنشر مقال لي بعنوان «قنبلة هيكل» (9/6/2011)، تعليقاً على ما ذكره الأستاذ في حواره مع الإعلامي محمد كريشان، عن وجود مذكرة تفاهم وقعت بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، تربط بين صفقة الغاز التي أبرمتها شركة «غاز شرق المتوسط» مع إسرائيل ومعاهدة السلام المبرمة بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، وتعتبر عدم الوفاء بالشروط المنصوص عليها في ذلك الاتفاق خرقاً لمعاهدة السلام، وهو ما اعتبرتُه أمراً بالغ الخطورة، وناشدت الأستاذ نشر نصوص هذه المذكرة. في اليوم التالي، اتصل بي الأستاذ شارحاً وموضحاً أنه لم يطلع بنفسه على نصوص هذه المذكرة، لكنه استنتج وجودها من شواهد ذكرها. ومرة أخرى، قدّرت اهتمام الأستاذ بالشرح والتوضيح.
لم يدّع الأستاذ هيكل كذلك، أن مواقفه السياسية كانت مستقلة أو محايدة، وكان يفاخر بانحيازه الى مشروع عبدالناصر الوطني ويدافع عنه باستماتة، مطالباً منتقديه بمقارعة الحجة بالحجة وبالرد على وثائقه بأخرى تثبت عكس ما يروج له، كما كان دائم التأكيد أنه لم يكن يوماً أداة في يد عبدالناصر، بل كان محاوراً له وشريكاً في صياغة مشروعه. ولا يملك أي مراقب منصف سوى الاعتراف بأن الاقتناع التام بمشروع عبدالناصر السياسي هو وحده ما يفسر دخول هيكل في صدام عنيف مع السادات في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر. ويلاحظ أن نمط العلاقة بين هيكل والسادات تكرّر مع مبارك ثم مع مرسي، على رغم أن الأمور لم تتطور في هاتين الحالتين إلى حد الاعتقال والسجن كما حدث في عهد السادات. فهل كان من المحتمل تطوّر العلاقة بين هيكل والسيسي لتأخذ النمط نفسه الذي شهدناه في عهود السادات ومبارك ومرسي، وهو نمط يبدأ بالتأييد المتحمس ويتدرج من الانتقاد إلى الصدام؟ هذا احتمال يصعب استبعاده، وربما يكون هو الاحتمال الأرجح.
بعد حوالى شهرين من فضّ اعتصام رابعة، وتحديداً في 17 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2013، بادرتُ بالاتصال باللواء محمد العصار، وزير الإنتاج الحربي حالياً ومساعد وزير الدفاع وقتها، لأعبّر له عن مخاوفي من تصاعد العنف ومن الاحتمالات المترتبة على تزايد الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها، داعياً إلى بذل مزيد من الجهد للتوصل إلى مخرج سياسي للأزمة. وانتهت المكالمة بطلب من اللواء العصار وضع أفكاري على الورق، إن كانت لديَّ أفكار محددة حول هذا الموضوع، وإرسالها إليه عبر البريد الإلكتروني. أمسكت بالقلم ودوَّنتُ ما خطر لي من أفكار، وكانت الحصيلة ورقة في أربع صفحات حملت عنوان «الأزمة والمخرَج»، اقترحت فيها آلية محورها تشكيل لجنة حكماء برئاسة الأستاذ هيكل، تتفق أولاً على القواعد العامة التي يتعين أن يلتزم بها الجميع في المرحلة المقبلة، وفي مقدمها نبذ العنف، ثم البدء في حوار مباشر بين الأطراف المعنية كافة للاتفاق على إجراءات حل الأزمة. ولأن أحداً من المسؤولين لم يحرك ساكناً، قررت نشر الورقة بعد حوالى أربعة شهور، وتحديداً يوم 4 شباط (فبراير) 2014، فأثارت جدلاً صاخباً. لم أكن حتى ذلك الوقت قد تحدثتُ مع أي ممن اقترحت أسماءهم كأعضاء في «لجنة الحكماء»، بمن في ذلك الأستاذ هيكل نفسه. وحين جمعني لقاء جديد مع الأستاذ هيكل في مكتبه بعد أسابيع من نشر الورقة، وتطرق الحديث إلى هذا الموضوع، سألته إن كان قرأها، فأجاب بالنفي، لكنه مدَّ يده وأمسك بالهاتف على الفور طالباً من سكرتيرته أن تبحث عن النص، وبعد أقل من دقيقتين كان على مكتب الأستاذ الذي انهمك في قراءته بينما رحت أكتفي بتأمل ملامحه من دون مقاطعة، على رغم تعليقات سريعة بدرت منه حول بعض الأسماء المقترحة. وبعد أن فرغ هو من القراءة، دار بيننا حوار استغرق ما يقرب من نصف ساعة، كان ملخص رأي الأستاذ فيه كالتالي:
1- لم تعد هناك جدوى من فتح نقاش حول الدوافع أو الأسماء أو التوقيت، بعد أن أصبحت الورقة مطروحة لنقاش عام.
2- توحي ردود أفعال الدولة من ناحية، والرأي العام من ناحية أخرى، بأن الأوضاع لم تنضج بعد لمصالحة مجتمعية شاملة.
3- يستحيل القبول باستمرار حال الاستقطاب الراهنة، وما يصاحبها من احتقان حاد، لأنه ليس في مصلحة أحد وينطوي على أخطار كبيرة على الأمن القومي، ومن ثم يفترض وجود خطط لدى الدولة تتخذ بموجبها إجراءات محددة لتخفيف حدة الاحتقان السياسي قبل إجراء الانتخابات البرلمانية، على الأقل لاستعادة ثقة الشباب ولضمان انخراطه في تحديد خيارات المستقبل.
مرت أيام وشهور، وطال انتظار الأستاذ لإجراءات لم تتخذ، وبدأ يشعر بقلق حقيقي على المستقبل راح يتزايد تدريجياً إلى أن وصل ذروته في حديثه الأخير مع السيدة لميس الحديدي، حين وصف النظام الحاكم بافتقاره إلى بوصلة موجهة وإلى رؤية سياسية واضحة. فور انتهاء هذا الحديث، بعثت للأستاذ هيكل برسالة قصيرة عبر هاتفه الجوال كان نصها كالتالي: «استمتعت بحديثك. أحسست بقلقك، لكني لست متفائلاً بالمستقبل، فات الميعاد».
رحم الله الأستاذ وعاش الوطن الذي أنجبه.