مثل كثيرين غيري، سمعت عن توفيق عكاشة لكني لم أسمعه أو أشاهده، حتى بعد فوزه الكبير في انتخابات البرلمان المصري الأخيرة. خطوة النذالة التي أقدم عليها قبل أيام، والمتمثلة في استقبال سفير إسرائيل في القاهرة ببيته، وما تلاها من ردود فعل غاضبة في مصر بلغت حد ضربه بالحذاء بمجلس الشعب المصري، كانت مناسبة “طيبة” لاستعراض سيرة الإعلامي “الكبير” الذي أشغل الشارع المصري منذ صعوده المريب عبر محطته الخاصة “الفراعين”.
يتملك المرء شعور الصدمة والدهشة بعد استعراض مقاطع من حلقاته التلفزيونية على موقع “يوتيوب”. مهرج أجوف من الصنف الرديء، لا يتقن أبجديات التحليل؛ ينسج القصص الخيالية السخيفة، ويفتقر للحد الأدنى من المعرفة بأبسط المعلومات والأحداث التاريخية. لكنه لا يتورع عن تقديم نفسه كخبير في السياسة، ومؤرخ في التاريخ، وعالم في العلاقات الدولية. والطامة الكبرى أنه يجد الملايين من المتابعين في مصر والعالم العربي، وتحمله الجماهير ممثلا لها في البرلمان.
“توك شو” عكاشة يمثل أرذل سنوات الإعلام العربي وأكثرها انحطاطا. شخص مخبول تظهر على وجهه وفي حركاته علامات المرض النفسي، ينصّبه الشعب مشرعا ومراقبا على الحكومات، وناطقا باسمه.
هنا يتكامل بؤس الإعلام مع السياسة، ولنا أن نقول مع بؤس الجماهير أيضا، التي أصبحت “الميديا” غريزة جديدة تتحكم بسلوكهم ومزاجهم وتوجهاتهم، على حساب قيم المعرفة والفكر.
لكن ظاهرة عكاشة ليست حالة فريدة في مصر والعالم العربي؛ لا في الإعلام فحسب، وإنما في السياسة والاقتصاد والفن. كن “أركوزا” على الشاشة أو في البرلمان، فتصبح نجما. ليس ثمة شيء أهم من النجومية. يكفي أن تتمتع ببعض الصفات الشخصية الغريبة والمواقف الشاذة، كي تأسر قلوب الناس.
الجماهير أبسط مما كنا نعتقد؛ تنصت لتحليلات عكاشة أكثر من هيكل، وتسهر على صراخ عمرو أديب وفيصل القاسم بتلذذ، بينما لا تلتفت لحوار عميق مع مفكر أفنى سنوات حياته في البحث والدراسة.
الحكومات بدورها تركض وراء الظواهر الشاذة؛ صعود عكاشة على سبيل المثال لم يكن بلا معنى. الترهات التي يخطب بها كل ليلة على الشاشة، وما تحتوي من إساءات بالغة للذوق العام، تكفي لسجنه مدى الحياة. لكنه يدخل السجن ليزيد من شعبيته ويخرج بطلا؛ ينال المزيد من الشعبية والدعم المادي لتبقى”الفراعين” واقفة على قدميها.
لم تكن هذه حال الشعوب قبل زمن “الميديا” العجيب. مصر تحديدا لها تجارب مبكرة في “الفهلوة” الإعلامية، كان أحمد سعيد خير مثال عليها. لكن مهما كان رأينا في ظاهرة أحمد سعيد، فلا مجال لمقارنتها مع الظواهر الحالية. فقد كانت مصر حتى وقت ليس ببعيد نموذجا لدولة تفرز أفضل الشخصيات في عالم السياسة والاقتصاد. حتى في زمن حسني مبارك لم يكن لشخص مخبول مثل توفيق عكاشة أن يحلم بدخول مجلس الشعب.
لكن في مصر وسواها من البلدان العربية، صار أمثال عكاشة نوابا ورجال سلطة ومال. هذا زمن الانحطاط.