عروبة الإخباري – رأى د.زياد الزعبي أن ديوان “جادك الغيث”، للدكتور صلاح جرار هو “تعبير عن داء الأندلس، الداء المقترن بداء فلسطين، وهو داء لا شفاء منه”، مشيرا إلى أن لغة القصائد هي لغة نابعة من جماليات الغياب، التي تعاين المفقود شعريا معاينة تمثل شكلا من أشكال معايشته من جديد، معايشة مسكونة بحس الاسترجاع والتأمل لكل ما جميل في غيابه المأساوي”.
وأضاف الزعبي في الأمسية الشِعرية التي نظمها منتدى الرّواد الكبار بعنوان “أندلسيات” أول من أمس، وحضرها د.صلاح جرار وأدارتها القاصة سحر ملص، أن “الفعل الشعري يجسد حالة من حالات التوازن السيكولوجي في مواجهة حالة الفقد التاريخي المقيم، وربما يمثل في الوقت نفسه شكلا من أشكال استدعاء السعادة من بين أنقاض الشقاء (التراثي)”.
واعتبر المحاضر قصائد الديوان الصادر عن دار الرابطة للنشر والتوزيع في دولة الإمارات العربية، مسكونة بالشجن والحب والحزن والحنين، توقظ في الروح أشواقها إلى عالم مفعم بالصفاء والصدق، عالم نفتقد فيه ما نحب ومن نحب، تنبع من هنا شهوة الكتابة التي تمكننا من رسم ملامح ما نريد، والتي تمنحنا بعض ما نفتقد، ونستعيد بها ما يستعاد.
وتحدث الزعبي عن عتبات الديوان التي تأخذ القارئ تلقائيا إلى الأندلس مقترنا بصوت فيروز وكلمات لسان الدين ابن الخطيب الذي يقول “جادك الغيث إذا الغيث همى/ يا زمان الوصل بالأندلس”.
وأشار المحاضر إلى أن الديوان هو الأول لجرار “تنبثق منه بؤرة اهتمامه الإنساني والوجداني والأكاديمي، وتعبر بعمق فكري وفني عن تجربة إنسانية ثرية بإيحاءاتها التي تنبع من تجربة الفردوس المفقود لتمعن في التعبير عن حال نوستالجية متأملة لحالة الفقد والغياب بكل معانيها المقترنة بالحب والحنين واسترجاع الأمكنة والأزمنة المفقودة”.
واعتبر الزعبي أن اقتران الزمان والمكان في مطلع الموشح ليست مصادفة، وكذلك الإهداء الذي خاطب المسكونين بالحب والحزن، بل يخلص إلى الأمكنة والأزمنة الأندلسية المشبعة بالحب والجمال والمثقلة بالحزن على “زمان الوصل” المفقود، وأن تكون القصيدة الأولى “كؤوس الرضا” مترعة بالحزن والحب والحنين والوجد، وهي الموتيفات التي تحكم النصوص الأندلسية وأصداءها المتناسلة عبر الزمن في نسق يجمع بين حنين مقيم
ورضا مخدر.
ورأى المحاضر أن قصائد جرار جميعها منبثقة من “الكون الأندلسي” ومعبرة عنه، فهي تستعيد ملامح الأمكنة الأندلسية “جيان”، “شهد جيان”، “لوشة” “وكونكا”، وحزن اشبيلية، وقمر المغرب، بأسلوب تحضر فيه السمات الأندلسية في الإيقاعات والموضوعات والتشكيلات اللغوية، لكنها وهي تستقي من هذا المعين الثر تتجلى في بنيات فنية خاصة بها معبرة عن روح صاحبها وفكره وثقافته، وهي تمثل بهذا صورة للتناص العميق الذي يعمق صورة الحاضر بالماضي، ويضيء كلا منهما بالآخر.
ويقف جرار بحسب المحاضر، على قصائد “على لسان ابن زيدون”، “كؤوس الوئام”، “شهد جيان”، حيث يظهر للقارئ كيف تسكن الروح الأندلسية، مشيرا إلى أن هذه النصوص فيها من اللطف والدقة ما يحيلها إلى نصوص الأندلسيين، لكنه يعود وهو موقن بفرادة ما قرأ، ولا شك أن هذه حال تبين عن الكيفية المدهشة التي ذوب فيها الشاعر بالنصوص الأندلسية وأعاد صياغتها بحلة جديدة هو صاحبها روحا وفنا.
ونوه الزعبي إلى نص “تتواشج”، فيه مجموعة من “الموتيفات الشعرية” المعبرة عن الفقد والغياب والحب والحزن والتأمل بكل ما يرتبط بها من عناصر، إنه نص يجعلنا نتساءل: هل هو داء الحنين المزمن إلى الماضي الذي يجمله الغياب، أو أنه محاولة الفرار من الراهن المثقل بالقسوة والهزائم والمرارات والخسارات التي لا تتوقف ـ هل هذا هو ما يجعلنا لا نشفى من الأندلس التي تتناسل اليوم في سلسلة لا تتوقف من “الأندلسيات”، ربما، ولكن من الواضح أن المأساة الماضية تحضر في أبهى صورها، وتغدو حلما نهرب إليه من واقع أكثر مأساوية، ألم يهرب غوته من الغرب الذي يتشظى إلى عالم الشرق السحري؟.
وتحدث المحاضر عن ظاهرة موسيقية سائدة في معظم نصوص الشاعر، وهي اعتمادها بصورة كبيرة البحور الشعرية ذات الإيقاعات الموسيقية الواضحة، وهذا ما يتجلى في بناء كثير منها على البحور المجزوءة، وهذه ظاهرة مرتبطة بتصعيد الموسيقى في النص، وهي ظاهرة أساسية في الشعر الأندلسي، وتظهر بوضوح في مطالع القصائد: “تعلق القلب بذات الوشاح/ وأشرق الصبح بكأس وراح/ زمني بات يشهد/ أن حبي مؤكد/ قمر أنار على الورى/ بسنا الجمال تدثرا/ أيها الشهد المصفى/ أيها الشعر المقفى”.
وأوضح الزعبي أن عملية التصعيد الموسيقي التي لا تتوقف على التصريع تظهر، بل تجاوزه إلى البحر الشعري والبناء الداخلي للنص، ما يمنح النص إيقاعا موسيقيا خاص يتقاطع مع إيقاعات الشعر الأندلسي، منوها إلى أنه باللغة نحاول أن نستعيد بلادا تسربت من فروج أصابعنا، وعمرا مر مثل ظل عابر لغيمة لم تغثنا، فأي عزاء يجدي غير “جادك الغيث” لغة وموسيقى تبقى حين نفقد المكان ويمر الزمان.
بعد ذلك قرأ جرار عدداً من قصائده التي استحضر فيها ملامح الأمكنة الأندلسية بعمق فكري يمتزج فيه الماضي بالحاضر لتتولّد نصوص مشبعة بالحب والحنين حيث قرأ قصيدة بعنوان “كؤوس الرضا” قال فيها:
“أدِرْ ليَ بعضَ كؤوس الرّضا/ ودعْ نسمات التصابي تَهبُّ/ فلا يعرفُ البُرءُ إلا سقيمٌ/ ولا يعرفُ الوجدُ إلا مُحبُّ/ لأنّكَ تعلمُ ما في الضميرِ/ وماذا أحبّ وما لا أحبُّ”.
واتبعها بقصائد حملتْ عناوين “الزمن العذب”، “ذات الوشاح”، “مداد القوافي”، “حيرة”، “سلامٌ عليك”، “ليل العاشقين”، و”يا من على وجل ألمّا”.
تصوير عيسى ابو عثمان