أتابع باهتمام النقاشات المعمّقة عن موضوع المناهج المدرسية في الأوساط الثقافية والإعلامية. وبالرغم من أنّ هناك أراء واتجاهات ومواقف عديدة دخلت على “خط السجال”، الذي صار أشبه بـ”حرب إعلامية” بين الوزارة وهذا التيار، إلا أنّ أغلب النقاش -بدرجة كبيرة- يدور حول ما يكتبه الخبيران الجادّان في موضوع التربية حسني عايش وذوقان عبيدات من مقالات في “الغد”.
ثمّة ملحوظات شخصية عديدة لي بشأن هذا النقاش الدائر وحالة الاستقطاب غير المبررة المرتبطة به. لكنّني سأكتفي هنا بتقديم ثلاثة رؤوس أقلام على هامش النقاش، الذي يتطلب انفتاحاً وحواراً هادئاً ومعمقاً بين الجميع، وليس استقطاباً وتراشقاً إعلامياً.
الرسالة الأولى التي أوجّهها للزملاء والأصدقاء الذين يقومون بنقد علمي منهجي مشكور للمناهج المدرسية، ويضعوننا أمام هذا الملف البارز، و”الشيفرة” المرسلة، تتمثّل في ضرورة الانتباه والحذر من أن يتحوّل خطابهم أو سجالهم من النقاش بشأن مفاهيم تربوية وعلمية إلى نقاش عن الدين نفسه، فحين ذلك سيخسرون معركتهم الإعلامية والشعبية بجدارة كبيرة. وربما هذا ما يحاول بعض أبناء التيار المحافظ جّرهم إليه.
جدلية المناهج لا تدور، في ظني، حول إنكار أو التنكّر وتجاهل الهوية الإسلامية لأغلبية المجتمع الأردني، لكنّها تتمثل في ضرورة أن تنتبه المناهج التعليمية والتربوية لأهمية التعريف والاعتراف بالتعدد والتنوع الاجتماعي والثقافي والحضاري في المجتمع الأردني!
ليست المشكلة في أنّ أغلبية سكان الأردن مسلمون، بل في أنّ هناك تجاهلاً (وفق هذه الرؤية النقدية) للخبرات الثقافية والأديان الأخرى في كتب التربية والتاريخ والدين. وهو أمر لا يرتبط فقط بالمواطنين غير المسلمين، وحقهم في الاعتراف الكامل بوجودهم ثقافياً وتربوياً ووطنياً. إنما أهميته وضرورته تكمن، أيضاً، في تنشئة الجيل الجديد على احترام قيمة التعدد والتنوع والاختلاف العقائدي والمذهبي والثقافي.
الملحوظة الثانية وترتبط بالأولى؛ هي أنّ التحدي أمام “التربية والتعليم” يتمثّل في “مهمّة التنوير”؛ ليست المعركة في تقديم الإسلام أو عدم تقديمه، بل في أيّ إسلام نغرس في نفوس أطفالنا؟ هذا هو السؤال المهم المطروح؛ هل فعلاً نحاول تقديم وجبات تنويرية معمقة تمنحهم فهماً منفتحاً متقدماً للإسلام وروحه ومقاصده وفلسفته، أم يهيمن على إعداد المناهج فريق محافظ ينظر بتوجس لأي طرح تنويري وتثقيفي؟
بالطبع، “معركة التنوير” ليست مقتصرة على المناهج، فهي تستغرق المجالات كافّة، ولها أبعاد متعددة ومستويات مختلفة. لكن من الضروري أن يتم اختيار الفريق المتخصص من أهل العلوم والشريعة ممن يتوافرون على درجة من المصداقية والمعرفة العميقة، وكذلك الرؤية الإصلاحية الدينية، من هم أقرب إلى المدرسة العقلانية التأويلية المنفتحة، على خطى الإمام محمد عبده، ومحمود شلتوت، ورشيد رضا، ومحمد الطاهر بن عاشور وابن باديس.
وهنا ليس المطلوب إصلاحاً شكلانياً عبر إضافة فصل عن التسامح ورسالة عمان في كتب التربية الوطنية، بل المطلوب النظر إلى الفلسفة نفسها والفريق الأساسي الذي يتولّى الإشراف على إعداد المناهج، لكي تكون كتب التربية الإسلامية والتربية الوطنية والتاريخ منبثقة من معين واحد؛ لا أن نجد أنفسنا أمام مناهج مركّبة بصورة غير متسقة “كل حاجة سليمة بس لوحدها”!
وعلى الطرف الآخر، من الضروري الخروج من الجزئيات الصغيرة في عملية النقد؛ فليست القضية فيما إذا كانت صورة البنت محجّبة أو كانت هناك سور من القرآن الكريم في كتاب اللغة العربية، ففي النهاية لا يمكن نزع الناس من ثقافتهم، لكن من المهم أن تكون القيم المطروحة تقدمية منفتحة وفلسفة مستقبلية.
دعونا نؤجل القضية الثالثة إلى مقالة يوم غد، لأنّها على درجة كبيرة من الأهمية، وتتطلب توضيحاً أوسع.