يبدو الأمر للوهلة الأولى مزاحاً، أو واحدة من تلك القصص التي تحملها مواقع الكترونية جديدة تتكاثر (لعل LerPesse التونسي أكثرها مثابرة وتوفقاً في «دعاباته»)، وهذه المواقع تختص بفبركة الوقائع عند كل حدث واقعي، ليس بغاية الكذب او البروباغندا بل للسخرية من السياق اللاعقلاني الذي تتخذه إدارة «السياسة» بمعناها الواسع. وهو شكل قوي ومعبر من الإدانة.
ولكن لا! قصة الصبية الألمانية – الروسية ليزا التي لم يتجاوز سنها الـ 13 عاماً، والتي واجهت على ما يبدو مشكلة في مدرستها فقررت الهرب 30 ساعة ثم ادعاء تعرضها للخطف والضرب والاغتصاب على يد ثلاثة رجال «ملامحهم متوسطية»، واقعية جداً. وهذا الشق مألوف حتى في أكثر الصحف رصانة وجدية، لكنه عادة يقع في باب «حوادث» و «متفرقات». أما أن يتدخل سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا شخصياً في القصة، فيتغلب على خيال تلك المواقع التي تُحرّف الأحداث وسياقات تطوراتها، وتنسج لها مسارات ونتائج أخرى، فهذا يتخطى تلك المواقع ويفوز عليها.
حدث قبل شهر أن اختفت الفتاة ثم ظهرت وادعت ما ادعت وأيدتها عائلتها التي تضامنت معها الجالية الروسية – الألمانية الكبيرة (أكثر من مليوني شخص). وكان ذلك يتبع التحرش الجماعي الواسع بالنساء ليلة رأس السنة في مدينة كولونيا الألمانية والذي اتهم به المهاجرون من «ذوي الملامح المتوسطية»، وأثار أزمة عامة، ووظّفه اليمين المتطرف العنصري مثل الحركة النيو – نازية NPD (التي تسمي المهاجرين في منشوراتها ولافتات تظاهراتها Rapefugees في إدغام لتعبيري اغتصاب ومهاجر)، وتلك المعادية للإسلام مثل بيغيدا PEGIDA (وهي الأحرف الأولى من «الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة الغرب»!) للتحرك في الشارع والمطالبة بطرد المهاجرين، والهجوم على سياسة انغيلا مركل.
ثم دخلت الحكومة الروسية على الخط. قال لافروف (عن جدّ!): «نتمنى لألمانيا وهي قاطرة الاتحاد الأوروبي كل النجاح في مواجهة المشكلات الهائلة مع المهاجرين، وأن لا تخفي تلك المشكلات تحت السجادة، وألا تتكرر حادثة ابنتنا ليزا، لأن المعلومات عن اختفائها بقيت محجوبة لفترة طويلة ولأسباب مجهولة». ودعا ألمانيا للتعاون مع روسيا، فتنقل إليها المعلومات الضرورية «حتى يقع أقل سوء تفاهم ممكن. وبما أن الأمر يخص مواطنة روسية، فمن حقنا عدم انتظار نهاية التحقيق، وإبلاغنا بما يقع على مواطنينا الروس في ظروف استثنائية وخطيرة، وهو ما لم تقم به ألمانيا في وقته. يجب أن تتوافر شفافية أكبر…». ما استدعى ردوداً غاضبة من المسؤولين الألمان، وسخرية من الناطق باسم الخارجية الالمانية الذي أبدى «سعادة حكومته لالتزام الحكومة الروسية الكبير بالشفافية والموضوعية في شأن العدالة الجزائية»، في إشارة شبه مباشرة إلى الكم الكبير من التمويه والتمييع الذي أحاط بالتحقيقات في حوادث اغتيال صحافيين ومعارضين روس، بل غموض تلك الحوادث نفسها. وتكررت الدعوات لترك القضاء الألماني يأخذ مجراه، والتنبيه إلى أن ألمانيا «دولة قانون» ولا يمكن ممارسة ضغوط عليها الخ…، بل تطلب الأمر اتصالاً بين وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير ولافروف لتهدئة الموقف، بعدما أعلن الأول أنه يدعو روسيا لعدم «استغلال الحادثة في البروباغندا السياسية لتوتير النقاش الصعب لمسألة المهاجرين». ولكن ذلك لم يمنع الصحافة والقنوات التلفزيونية الروسية من الإمعان، فتبدأ القناة الأولى نشرة أخبارها المسائية بقولها: «وفق بعض المعلومات، بدأ المهاجرون باغتصاب الأطفال»، ثم تبث تحقيقاً من مراسلها يذكِّر بأساليب لعله ظُنّ أنها اختفت من عالم الإعلام اليوم، أو صارت مقتصِرة على الصحف الصفراء: مقابلات «عفوية» مع أناس في الشارع يبدو أنهم يعرفون جيداً ما عليهم قوله، وشريط فيديو قديم لجماعة من اليمين المتطرف يظهر رجالاً مموَهين يوصفون بالأغراب، يتباهون باغتصابهم لفتاة. ولحقتها قنوات أخرى.
اضطر الأمر الشرطة الألمانية إلى الإعلان أنها استطاعت استعادة المعلومات المتوافرة على الهاتف المحمول للصبية على رغم تحطيمها له، والتي أظهرت أين لجأت في هربها ذاك ومع من باتت ليلتها، وسوابقها في إقامة علاقات جنسية عابرة، وكذلك تقرير الطب الشرعي الذي يؤكد عدم تعرضها للاغتصاب وتطابق معطياته مع معطيات الشرطة تلك. وهذا ما لا يبدو أنه أقنع السيد لافروف الذي أكد: «نعمل حالياً مع عائلتها ومحاميها وسفارتنا. من الواضح أن الصبية لم تختف بإرادتها، وعلى الحقيقة والعدالة أن تغلبا هنا».
قد يكون مفهوماً أن تكون السلطات الروسية ترغب، على رغم تفاهة الحادثة المستغَلَة، بإزعاج الحكومة الألمانية بسبب الاصطدام بينهما في ما يخص العديد من المواقف، وعلى رأسها التشدد الألماني في فرض العقوبات على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، أو حتى الخلاف في الأزمة السورية. لكن الخطير هو مقدار التحريض العنصري على «الأغراب» والمهاجرين وتقديمهم كوحوش فالتة تعيش على الاغتصاب. وهو يتلاقى مع نظيره الذي يشيع على المواقع الإعلامية لليمين المتطرف في كل أوروبا ومعها الولايات المتحدة الأميركية، حيث يجري بلا تحفظ استخدام تعبير «المسلمين» وليس الأغراب. جان ايف لوغالو، وهو نائب سابق في البرلمان الأوروبي وأحد أشهر منظري اليمين الجديد المتطرف في أوروبا، إذ أسس في فرنسا «مجموعة البحث حول الحضارة الأوروبية GRECE» في أواخر الستينات، ثم «نادي الساعة» بعده ببضع سنوات، كتب أن «المانيا بقبولها المهاجرين واجهت انفجاراً في رقم الاغتصاب. فهل فرنسا هي التالية؟». وبغض النظر عن بشاعة كذب التأكيد الأول، فالسؤال غريب لأن أعداد المهاجرين الجدد إلى فرنسا هو الأضعف أوروبياً. سوى أن هؤلاء القوم يخلطون بين هذه الموجات الجديدة والهجرات القديمة التي وقعت في النصف الأول من القرن العشرين وكانت الجزائر أيضاً وبالأساس مصدرها، وهي المستعَمرة ثم التي عرفت ظاهرة «الحركي»، ومن بعدها كل ملابسات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وهذا الخلط ونعت المسلمين هو لب عنصرية الموقف. ويعتد لوغالو بدراسة لمركز غيتستون للأبحاث Gatestone وهو أميركي «محافظ»، تثبت الصلة الوثيقة بين المهاجرين والاغتصاب الخ…
وهكذا تكتمل الحلقة، وتقع تقاطعات مدهشة بين أطراف متباعدة في الظاهر، مما يعيد تسجيل مقدار الاهتزاز السياسي والفكري الذي يعصف بالعالم اليوم.